لماذا يشتاق العرب الى جمال عبد الناصر؟
شفيق ناظم الغبرا
رن الهاتف وإذا بي أسأل صديقي الذي لم أتحدث معه منذ مدة: «تبدو مختفيا، ماذا شغلك هذه الأيام».
فرد موضحا: «صار لي مدة أقرأ وأشاهد كل ما أجده عن جمال عبد الناصر، لقد اشتقت اليه في هذا الوضع العربي المنهار».
بعد المكالمة اجتاحتني سلسلة من الأفكار المتناقضة، وبالفعل، بدأت أقول لنفسي، يزداد شوق العرب لشخصية عبد الناصر في ظل الانحطاط السياسي العربي المستمر منذ غادرنا ناصر ليومنا هذا. لقد قاد عبد الناصر مدرسة الاستقلال التي يفتقد اليها العرب اليوم، وجسد مفهوم الكرامة من خلال حسه تجاه العدالة وموقفه مع المظلومين في وطنه وخارج وطنه. لقد حمل مشروعا سياسيا نابضا بالحيوية والتفاؤل والثقة، وهذا كله اختفى من عالمنا العربي. في خمسينيات وستينيات القرن العشرين جسد ناصر الكثير من شغف العرب بالاستقلال والعدالة والأمل ببناء تاريخ مشترك لأوطانهم وللأمة العربية.
جمال عبد الناصر الذي حكم مصر من خلال انقلاب عسكري أطاح بالنظام الملكي في تموز/يوليو 1952 لم يكن قائدا ديمقراطيا لكنه لم يكن قائدا دمويا أو عبثيا كحال الذين جاءوا بعده لحكم الإقليم العربي. كان عبد الناصر قارئا للتاريخ، ومؤمنا بأن مصر الناهضة قادرة على أخذ العرب لشاطئ أفضل. لقد ارتبط اسم ناصر بالروح القومية العربية بصفتها قادرة علي تجميع العرب بتنوع مذاهبهم ودياناتهم، بل يسجل التاريخ لعبد الناصر بأنه قاد المواجهة مع الاستعمار في عموم البلدان العربية. لقد دعم ثورة الجزائر بكل مبدئية ضد فرنسا، وحدد سياسة واضحة في المواجهة مع الصهيونية وإسرائيل، كما أمم قناة السويس في مواجهة حازمة مع بريطانيا وفرنسا وذلك لحماية مصالح مصر، بينما قام بكسر حظر السلاح الغربي المفروض على مصر، وقاد عبد الناصر مشروع العدالة الاجتماعية وتحرير فلاحيها من الظلم في مصر، وأنشأ كتلة عدم الانحياز مع نهرو زعيم الهند وشوان لاي نائب ماو تسي تونغ وتيتو زعيم يوغسلافيا، كما وساهم بصورة أساسية في إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية، ودعم المقاومة الفلسطينية بعد حرب 1967. لقد قاد ناصر حرب الاستنزاف ضد إسرائيل وصولا لإعادة بناء الجيش المصري والتمهيد لحرب أكتوبر 1973.
ناصر كان اول زعيم في العالم الثالث ينجح في تأميم شركة كقناة السويس المملوكة لبريطانيا وفرنسا. كانت الشركة في مصر دولة ضمن الدولة، لهذا شكل تأميمها ضربة كبرى للاستعمار في دولة من دول العالم الثالث، وقد أدى ذلك لقيام كل من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل بمهاجمة مصر في العدوان الثلاثي عام 1956، وقد نتج عن ذلك الهجوم احتلال قناة السويس وقطاع غزة وصحراء سيناء. لكن مقاومة ناصر للعدوان الثلاثي الهمت العرب، والهمت العالم الثالث برمته ووضعت ناصر في قيادة حركة الاستقلال في العالم الثالث. مشهد ناصر في الأمم المتحدة بينما تقف له كل الوفود تقديرا لمكانته لا ينسى. لقد دعم ناصر كل حركة تحرر في أفريقيا وفي العالم الثالث، وهذا جعله ايضا زعيما افريقيا وزعيما لمنطقة حوض النيل، وهذا ساهم بحماية الثروات المائية المصرية عبر منبعها ومسارها الافريقي.
لم يدخل ناصر عائلته الحياة السياسية، لم يسع للاغتناء المالي، ولم يحاول توريث الحكم لأي من أولاده، وعندما مات لم يكن يملك شيئا في جيبه أو حسابه. كانت فلسطين أساسية في مشروعه التحرري، وكانت الوحدة العربية، رغم تعثر وفشل مشروعه مع سوريا، أساسية لرؤيته المستقبلية. وعندما وقع الانفصال مع سوريا عام 1961 قرر الانسحاب بلا قتال ودماء إيمانا منه بالإبقاء على أمل الوحدة لأجيال مقبلة.
قيم العدالة الاجتماعية التي انتهجها عبد الناصر غيرت مصير الفلاح المصري. لقد استحق ناصر لقب امير الفقراء ( كما سماه أحمد فؤاد نجم الشاعر والمعارض المصري)، بل كان الفلاح المصري في زمن النظام السابق لناصر يعيش حياة بائسة مليئة بالشقاء والفقر. لقد جعل عبد الناصر ( وهو ابن لفلاح بسيط كد من أجل إيصال ابنه للكلية العسكرية) قادر على أن يؤمن بإمكانية أن يكون ابنه في أحد الأيام رئيسا للجمهورية. لقد كسر عبد الناصر القيود الطبقية السائدة في مصر في تلك الحقبة وجعل الفلاحيين المصريين وأبناءهم وبناتهم ( وهم أغلبية الشعب) يكتشفون حقوقهم في التعليم والتطبيب وتبوأ المناصب السياسية والقيادية. لقد جعل الريف المصري جزءا لا يتجزأ من مشروعه العربي.
ولمحاربة ناصر صنعت بريطانيا ثم الولايات المتحدة الأحلاف والدفاعات ( حلف بغداد مثلا). لأجل كل هذا هدفت حرب 1956 لإسقاطه وتغير نظامه، ولهذا وقع هجوم إسرائيل في حرب 1967، الذي أدى لسقوط سيناء، وغزة والضفة الغربية والقدس الشرقية والجولان السوري، ذلك الهجوم سعى لتوجيه أكبر ضربة لمشروع ناصر العربي، تلك الضربة أجهضت المشروع الناصري وحجمت من اندفاعته.
الذين خشوا من ناصر في العالم العربي اختصروا نظامه بدولة المخابرات وأخطاء التأميم وحربه في اليمن، وبالفعل تورط ناصر في حرب اليمن، وأخطأ في التأميم وإدارة وحدته مع سوريا، ولم يحضر نفسه كما يجب لحرب 1967، كما قام ناصر بسجن المعارضين وأعدم نظامه سيد قطب أهم مفكر ومنظر للإخوان المسلمين، تلك كانت من أسوأ وأخطر أخطاء النظام.
لكن في المقابل أدت سياسة ناصر الوطنية لتحويل الكثير من معارضي ناصر لمدافعين عن صمود نظامه أمام إسرائيل والاستعمار، ومدافعين في الوقت نفسه عن التزامه بحقوق الفقراء والضعفاء. عندما مات ناصر كان الشاعر أحمد فؤاد نجم في السجن بسبب مواقفه السياسية، لكن أحمد نجم يذكر في حديث ذكرياته كم بكى على عبد الناصر عند مماته عام 1970. فحتى الذي ظلمهم عبد الناصر احترموا فيه شجاعته واستقلاليته وروحه العربية وسعيه للعدالة وتحمله لمسؤولية مشروعه السياسي العربي.
لقد مثلت المدرسة “الواقعية” العربية نقيضا لعبد الناصر، تلك المدرسة آمنت بالمرونة في كل شيء بما فيها أكثر المبادئ صحة وعدالة. لهذا قامت ببيع القطاع العام للخاص فباعت الدولة لأصدقائها وأقربائها، وانتهت بنشر الفساد وطرح توريث الحكم في أكثر من دولة عربية جمهورية، وسعت المدرسة الواقعية نحو السلام مع إسرائيل على حساب الأرض والحقوق، بينما قبلت أكثر الشروط إجحافا. لقد انتقمت المدرسة “الواقعية” العربية من عبد الناصر فأفقدتنا استقلالنا ومكانتنا أكنا في دول وطنية عربية أم بصفتنا شعوبا عربية تعشق الحرية والاستقلال وتسعى نحو العدالة والإنصاف. في زمن ناصر لم تصل الديون في مصر ( وقتها وصل الدين لمليارين) إلى ما وصلت إليه بعد ذلك ( عشرات المليارات)، يوم وفاته لم يكن الفساد قد انتشر كما هو حال الفساد اليوم. لقد خسر العرب بموت ناصر، وبالرغم من أخطائه، قائدا حرص على وطنه وشعبه وإقليمه.
عندما مات عبد الناصر لم يشهد العالم العربي جنازة لرئيس أو قائد أو ملك بهذا الحجم. لقد تداخلت المشاعر في وداعه، لهذا كانت جنازته لا تقل عن خمسة ملايين في القاهرة، بينما ملايين أخرى زحفت نحو القاهرة من أرياف مصر سيرا على الأقدام لأجل وداعه. وداع عبد الناصر انتشر في طول وعرض الوطن العربي، فقد عم فيها الحزن و العزاء والصمت وأغلقت الأسواق طوعا.
للأسباب التي ذكرتها في هذا المقال يشتاق العرب لجمال عبد الناصر. فسياسات من جاءوا بعده نشروا الظلم وقزموا العدالة وفككوا العرب وتخلوا لأجل السلامة عن المشروع العربي، بل دفعوا العرب مجددا للوقوع فريسة قوى الاستعمار والرأسمال العالمي. في ظل سقوط العدالة والسعي لتصفية القضية الفلسطينية وحصار غزة ( الذي تشارك به مصر العربية منذ سنوات) من الطبيعي أن يزداد شوق العرب لعبد الناصر. لا أعتقد بإمكانية إعادة استنساخ مرحلة ناصر، لكن بالمقابل لا تعكس هذه المرحلة أي من احتياجات العرب وأمانيهم. منذ 2011، ترتفع صور عبد الناصر في الميادين العربية مطالبة بإصلاح حال العرب وإعادة بناء استفلاهم وتأمين العدالة والحريات في بلادهم ودولهم. العرب تواقون لمشروع يحميهم من الظلم وينير مستقبلهم ويضمن لهم مكانتهم بين الشعوب ويضعهم في طريق الحرية والعدالة والديمقراطية. سيبقى جمال عبد الناصر كزعيم عربي تاريخي ألهم العرب وأخلص لهم كما وحرك شعوبهم في بدايات النصف الثاني من القرن العشرين مصدر إلهام لحركاتهم المعارضة ولتياراتهم الإصلاحية الباحثة عن مستقبل مختلف عن الواقع الراهن الذي يسوده البؤس. يستدعي العرب من قاعهم الراهن جمال عبد ناصر بصفته صانع حلم وكاسر قيد ومؤسس مشروع.
٭ استاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت