في الهلال الكئيب… تتعدّد الاولويات وتتصادم بين سوريا وأعدائها
د. عصام نعمان
خلال اسبوع تقريباً ، تزامنت احداث عسكرية وسياسية متعددة ولافتة في الهلال الخصيب او بالأحرى الكئيب.
على الصعيد العسكري ، حدثت غارة جوية غامضة ضد قوات متحالفة مع الجيش السوري في منطقة البوكمال على مقربة من الحدود السورية – العراقية. ضحايا الغارة قارب الستين ، اربعون منهم من مقاتلي “الحشد الشعبي” العراقي والبقية سوريون ولبنانيون . دمشق اتهمت اميركا بالإعتداء فيما سارعت مصادر رفيعة في واشنطن الى الإعلان عن مسؤولية اسرائيل. بنيامين نتنياهو كان صرّح في جلسة حكومته عشية الإعتداء يوم الاحد الماضي (2018/6/17) ان القوات الإسرائيلية ستقوم بإقتلاع الوجود العسكري الإيراني اينما كان في سوريا حتى لو تطلّب ذلك العمل في عمقها الأمر الذي أكّد مسؤولية اسرائيل عن الغارة .
اميركا لم تتأخر في تأكيد دعمها العسكري المكشوف لإسرائيل ضد سوريا. فقد هاجمت قواتها المتمركزة في منطقة التنف على مقربة من الحدود مع العراق والاردن موقعاً عسكرياً سورياً جنوب شرقيّ تدمر، لكن دونما طائل . كما قامت طائراتها بقصف مواقع سورية شمال شرقيّ دير الزور ما تسبب بسقوط ضحايا مدنيين.
سوريا كانت تحسّبت قبل هذه الإعتداءات للعدوان الصهيواميركي فقررت فتح معركة الجنوب السوري لتحرير المناطق التي تسيطر عليها تنظيمات ارهابية تدعمها اسرائيل. معركة الجنوب تركزت على محورين : درعا وقرى ريفها الشرقي ، والسويداء وقرى باديتها في الجنوب الشرقي المحاذية للحدود مع الاردن ولمواقع القوات الاميركية في التنف. في بادية السويداء كما في بادية الشام شرقيّ حمص ، تمكنت القوات السورية من تحقيق نجاحات ملحوظة ولاسيما ضد مقاتلي “داعش” المدعومين من القوات الاميركية في التنف.
واكب الإعتداءات الصهيواميركية على شرق الهلال الكئيب عدوانٌ اسرائيلي متمادٍ على جنوبه (قطاع غزة) ولاسيما على مسيرات العودة فيه ايام الجمعة . لكن إزاء نجاح حملة الطائرات الورقية والبالوانات المتفجرة في احراق عشرات الآف الدونمات من الحقول والمحميات والحدائق في مستعمرات (مستوطنات) غلاف غزة ، هدد نتنياهو بتشديد الرد الصهيوني على قوى المقاومة في غزة وبأن “على جميع اعداء اسرائيل ان يدركوا ذلك”.
في الواقع ، لا يمكن الفصل بين الإعتداءات الصهيواميركية في الهلال الكئيب عن الحرب التي تشنها السعودية وحلفاؤها على اليمن وذلك في إطار الحرب الاميركية “الناعمة ” لكبح النفوذ الإيراني في منطقة غرب آسيا. ذلك ان ادارة ترامب تعتقد انها بإلغائها الإتفاق النووي وفرض عقوبات جديدة على ايران تُلحق بها خسائر اقتصادية شديدة من شأنها تعزيز قوى المعارضة في الداخل المناهضة لنظام الجمهورية الإسلامية .
على الصعيد السياسي ، تصاعدت الحركة الديبلوماسية في المنطقة : زيارة نتنياهو لعمّان ، وزيارة مستشار الأمن القومي الإسرائيلي لموسكو ، ووصول قائد قوات حرس الحدود الروسي الى اسرائيل ، وزيارة موفديّ الرئيس الاميركي ، جاريد كوشنر وجايسون غرينبلات ، لعواصم المنطقة، وزيارة المستشارة الالمانية انجيلا ميركل لبيروت. هذه التطورات والمخاطر تطرح سؤالاً جدّياً عن اولويات اميركا وحلفائها في المنطقة كما اولويات سوريا وحلفائها وطريقة كلٍّ من هؤلاء في مواجهة اولويات الآخر.
من الواضح ان لأميركا اولويتين استراتيجيتين: حماية اسرائيل ودعمها ، وكبح النفوذ الإيراني وصولاً الى إضعاف نظام الجمهورية الإسلامية املاً بإسقاطه. اما اسرائيل فتحظى دائماً بدعم اميركي سخي بالمال والسلاح ، وبإلتزام موثّق برسالة من ترامب بألاّ يطلب منها نزع سلاحها النووي على ان تستمر سياسة الغموض التي تتبعها في هذا المجال. مجلة “نيويوركر” الاميركية التي كشفت رسالة ترامب لم تشر الى اي تعهد اسرائيلي مقابِل بعدم استعمال السلاح النووي إلاّ بموافقة واشنطن ما يعني انه يبقى في وسع اسرائيل استعمال سلاح التدمير الشامل هذا بمعزل عن اي قيود اميركية او دولية.
فوق ذلك ، دعمت واشنطن وتدعم مخطط اسرائيل الهادف الى تفكيك سوريا. لذلك قامت بتحذير دمشق “من ان اي تحرك عسكري للقوات الحكومية ضد منطقة خفض التصعيد في جنوب غرب سوريا يهدد بتوسيع النزاع”. الناطقة بإسم الخارجية الاميركية ، هذر نويرت، هددت بأن “الولايات المتحدة ستتخذ اجراءات صارمة ومناسبة رداً على انتهاكات الحكومة السورية في المنطقة”. بالتوازي مع هذا الموقف المنافي لحق سوريا ببسط سيادتها على كامل ترابها الوطني، اتخذت واشنطن موقفاً مماثلاً من اعلان سوريا اعتزامها تحرير محافظات دير الزور والرقة والحسكة من التنظيمات الإرهابية اذ ما زالت واشنطن تدعم سيطرة فصائل كردية سورية متعاونة معها على اجزاء واسعة من تلك المحافظات بقصد تحويلها الى كيانات مستقلة عن الحكومة المركزية في دمشق.
في اليمن ، تدعم واشنطن السعودية وحلفاءها ضد حكومة صنعاء الشرعية املاً بقيام عدة كيانات سياسية تتوزع مساحة البلاد وتحول دون اقامة حكومة مركزية متحررة من النفوذ السعودي.
في وجه المخططات والإعتداءات الصهيواميركية ، تؤكد سوريا إصرارها على استعادة وحدتها وبسط سيطرتها على كامل ترابها الوطني. كذلك تفعل المقاومة الفلسطينية في كل مناطق الوطن السليب ولاسيما في قطاع غزة والضفة الغربية. ايران وحزب الله اللبناني يدعمان سوريا والمقاومة الفلسطينية سياسياً وميدانياً في اطار محور المقاومة الذي بات ، على ما يبدو ، يضمّ العراق ايضاً. ومن الواضح ان ايران وحزب الله يصران ، بدعم غير مباشر من روسيا ، على فتح ممر عبر الحدود السورية – العراقية في منطقة البوكمال ليكون شريان امداد لوجيستي من طهران الى بيروت عبر بغداد ودمشق. واذْ تناهض اسرائيل هذا التوجّه الحازم لمحور المقاومة (بدليل غارتها الجوية الاخيرة على منطقة البوكمال الحدودية) فإن سوريا تجد نفسها مضطرة الى الترحيب بقواعد عسكرية ايرانية على اراضيها بغية ضمان دفاع فاعلٍ عن امنها القومي كما عن امن ايران في وجه اسرائيل واميركا.
روسيا جادة في دعمها سوريا لإستعادة وحدتها وسيادتها على كامل اراضيها ، لكنها حريصة على عدم استفزاز اميركا توخياً لإنجاح المفاوضات في جنيف وسوتشي الرامية الى ايجاد حل سياسي للأزمة المتمادية . غير ان موقفها هذا لا يحول دون الضغط سياسياً على اميركا بدليل اعلانها اخيراً ان على جميع القوات الاجنبية المتواجدة في سوريا دونما ترخيص من حكومتها الجلاء عنها. هذا الموقف لا ينسحب على ايران لأن قواتها متواجدة في سوريا بترخيص من حكومتها.
هكذا تتواجد وتتزاحم اولويات الدول والقوى والفصائل المتصارعة في ساحات الهلال الكئيب. وهي اولويات تضج بشتى التحديات والمخاطر المرشحة الى إحتكاكات وانفجارات مدوّية ، وربما تؤشر ايضاً الى الإنتقال بالهلال الكئيب من حال الحرب الناعمة الى حال الحرب الساخنة .