التوقيت المفخخ !!
يجرّب الأميركي أن يخرج من سوء الطالع فيقع في سوء الوكيل، ويختار الخطوة الصحيحة في التوصيف الروسي فيتوه في المخرج، وأحياناً في المسار الذي يوصله إلى الأسوأ، فيستفيض في التجريب العبثي في منطقة لم تعد تحتمل التجريب، ولا تقوى على تبعات التأخير واللعب في الوقت التائه، حيث ينتقل من مأزق الأدوات التي خذلته غير مرة.. إلى أن يصل به المطاف إلى التوقيت المفخخ إقليمياً ودولياً وحتى داخلياً، الذي تتنازعه صراعات القوى والنفوذ وإرث الدولة العميقة التي كادت تكفر بوجود ترامب وقراراته!!
فجبهات العمل التي توازعها في مهمات عاجلة كل من بومبيدو المتعثر وبولتون العسير، وتتنازعها الميول الشخصية، تشي بأن الانقلاب هنا ليس على التفاهمات التي تحاول واشنطن أن تنجزها مسبقاً كما روج بولتون، وإنما على ما تبقى من خيارات قابلة للنقاش في هذا الجو العاصف من التكهنات التي تضع محدداتها المسبقة على هذا الحراك، وترسم ضوابط وسقوفاً يبدو أن الأميركي يبحث في جدولتها لتكون قابلة للصرف في المرحلة المقبلة دفعة واحدة، تعيد له ما دفعه مع ما تقتضيه من إضافات ناتجة عن مدة الاستخدام، من دون أن ينسى ما يتصل بتعويضات عن كل الأكاذيب التي ساقتها إسرائيل منذ اغتصابها فلسطين وربما إلى ما قبلها.
على أن الحراك الأخير يكشف عن تكثيف أميركي في خط الرسائل المتناقضة، ويضاعف من حجم الألغاز والأحجيات في سياق الترويج للانسحاب من سورية، بحيث إن الإضافات أو الملحقات التي تراكمت في هذا الملف تجعل من الصعب البناء على ما يصدر عن الإدارة الأميركية بخصوص المقاربات التي تعتمدها في سياستها القادمة، وتوحي في الحد الأدنى بتشوش الصورة في سياسة تتعمد خلط المعطيات والاحتمالات، وربما السيناريوهات القادمة لذلك الانسحاب، الذي بات في علم السياسة مبازرة رخيصة لبضاعة كاسدة، وفي أفضل الأحوال تسويقاً لهزائم مسبقة يتقاسم فيها الأميركي مع أدواته وحلفائه أسبابها.. فيما يرفض أن يتشارك معهم في نتائجها.
وبغض النظر عن الطريقة التي يعتمدها في نهاية المطاف لشكل الانسحاب المزمع، يبدو الحراك السياسي الموازي معها والنشاط المحموم الذي يقوده وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي حمال أوجه، ويرسم تقاطعات على المدى البعيد تأخذ شكل العبث بالوقت، والعبث بالاصطفافات السياسية الناشئة، والأخطر العبث بمكونات وركائز اعتادت عليها المنطقة لعقود طويلة، حيث التحالفات التي تبدو سائدة وقائمة تتعرض لهتك متبادل من أطراف اللعبة السياسية والقوى التي تديرها، بحيث إن الناتج يقود إلى خلاصات صعبة الهضم وعسيرة على التفكيك والتحليل، وبالضرورة ستكون الأصعب في التركيب.
فالأميركي اليوم.. يريد -ويعلن ذلك- أن تبقى قواعد الاشتباك التي كانت قائمة على النسق ذاته، وتحديداً ما كان سائداً بوجوده، وأن يضمن تفاهمات مستحيلة بين أطراف تتناقض في المبدأ، وتقوم على أساس العداء المستحكم في معادلة الوجود ذاته، وكانت ترتضي بالأمر الواقع إرضاء للأميركي ذاته، لكنها اليوم في مكان آخر، حيث تتوازعها دوافع شتى، أقلها الهواجس من فراغ الدعم الأميركي المباشر، وأخطرها تلك المخاطر التي تتهدد وجودها وثابتها الأساسي الهزيمة المنتظرة، التي رسمتها صورة افتراضية تشتد فيها عوامل التنافر، وتتكثف شروط الصراع الذي غذّته وتغذيه مظلة أميركية تعود إلى عقود طويلة، هتكت سرها الأخطاء، وراكمت من اهترائها لغة الهزائم الحاضرة، وأتعبها التوقيت الضاغط، وأرهقتها سنوات التيه خلف فتات معلب من تجارة الوهم.
بقلم: علي قاسم