«المسألة الناصرية».. واستمرار الحضور
د. جمال زهران
أصبح واضحًا فى الفكر السياسى المصرى والعربي، أن هناك مدرستين واضحتين فى التعامل مع المسألة الناصرية. الأولى هى المدرسة الناصرية، والثانية هي: ما بعد الناصرية. وتعرف المدرسة الناصرية بمشروعها المتكامل وفى جميع المجالات، وهو القائم على العدالة الاجتماعية والحرية والاستقلال الوطني. وقد اطمأن الشعب المصرى لثورة 23 يوليو 1952م ولعبد الناصر، وشعر أن هذه الثورة قامت من أجله وأنها تحمل همومه وطموحاته فى عيش كريم ومجتمع حر يعتمد على نفسه، عندما أعلن عبد الناصر قانون الإصلاح الزراعى وإعادة توزيع الثروة التى كانت متركزة فى مجتمع النصف فى المائة، وهو الذى اعترف به عبد الناصر فى فلسفة الثورة بعد ذلك الحدث بعامين. ولذا قاعدة الناصرية هى العدالة الاجتماعية بالقضاء على الإقطاع والرأسمالية حينما ذهب عبد الناصر إلى تمصير البنوك وتأميم الشركات وإقامة قاعدة صناعية وزراعية تعتمد على الذات وتنهض بالبلاد.
وتبنت الثورة قضايا التحرر والاستقلال الوطني، ولذلك ترى الناصرية أنه لا انفصال بين الداخل والخارج، وأن حماية الداخل هو دعم حركات التحرر والاستقلال فى المنطقة العربية كدائرة أولى، ثم إفريقيا كدائرة ثانية ثم العالم الإسلامى بما فيه الوطن العربى وإفريقيا كدائرة ثالثة. ولذلك كانت مصر الناصرية صانعة لحركة عدم الانحياز عام 1961. وكذلك صانعة لمنظمة الوحدة الإفريقية عام 1963م، وصانعة للمؤتمر الإسلامى الذى تحول لمنظمة التعاون الإسلامي، وذلك عام 1969م، إثر حريق إسرائيل للمسجد الأقصى. كما أن مصر وراء دعم حركات التحرر فى الجزائر وفى اليمن وفى العراق وغيرها فى قارات العالم، وكانت وراء إنشاء مجموعة الـ «77» فى الأمم المتحدة من دول العالم الثالث والدول النامية، وكانت مصر تتبنى دبلوماسية كفاحية، كما عرفها لنا ووصف نشاط هذه الفترة «1952-1970م» بهذا المسمى، أستاذنا الدكتور حامد ربيع. حتى إنه عقب النكسة فى 1967م، وفى مؤتمر قمة الخرطوم فى أغسطس 1967م، أعلن عبد الناصر أنه: لا صلح.. لا اعتراف.. لا تفاوض، وهى صياغة عبقرية لسياسة مقاومة لا استسلامية.
كما أن الناصرية صانعة الإرادة فى تأميم قناة السويس والانتصار على العدوان الثلاثى عام 1956م، وصانعة لتجربة وحدوية اندماجية، بل لتجارب وحدوية عربية لم تكتمل، وواجهت مؤامرة 1967م، ولم تنكسر وأعيد بناء القوات المسلحة التى قادت معركة رأس العش ببسالة بعد ثلاثة أسابيع من النكسة، الأمر الذى أكد أن جيش مصر والعرب لم يهزم، بل واجه عثرة سرعان ما تخطاها، وقاد حرب الاستنزاف ببسالة منقطعة النظير وهى المقدمة لحرب أكتوبر 1973م التى سطرت صفحات بيضاء فى تاريخ الجيش المصرى بإنجاز العبور، وتحطيم خط بارليف وتجسيد خطة خداع إستراتيجى غير مسبوق. ومن ثم فهناك مدارس علمية تقيم الفترات التاريخية على المستوى الكلي، وهناك مدارس أخرى تقيم على المستوى الجزئى والأحداث الصغيرة للنيل من الحصاد الكلي، والسير فى مسلسل التشويه الدائم تحقيقًا لأغراض شخصية أو تعاونًا مع أجندات معينة.
وتلك هى مشكلة مدرسة ما بعد الناصرية، والتى لها دعاتها ورموزها فى وسائل الإعلام «صحافة وإذاعة وتليفزيون»، مصريا كان وعربيا أودوليا. كما أنها تمتلك ظهيرًا داخليًا لا يستهان به بعودة الرأسمالية مرة أخرى والإقطاع وتركز الثروة، وضرب العدالة الاجتماعية. ولذلك كان تبنيهم لضرب وتفكيك الصناعات الوطنية والقطاع العام والسياسات الزراعية وضرب الدورة الزراعية، ومحاصيل مصر الإنتاجية المتميزة فى مقدمتها القطن طويل التيلة، وخلق دوائر السماسرة وشبكات الفساد، وإطلاق قوى ما يسمى بـ «الإسلام السياسى» والسماح لجماعة الإخوان بالعودة للمسرح السياسى والاجتماعى.
تلك هى منظومة ما بعد الناصرية، التى تطورت تدريجيًا، وهدفها هو ضرب المشروع الناصري، واستبداله بالمشروع الرأسمالى المتوحش مرة أخرى، للقضاء على القاعدة الشعبية لهذا المشروع، وكذلك العودة بالمجتمع المصرى لما قبل ثورة 23 يوليو 1952م «الثورة الأم» وقد تناسى هؤلاء أن إصرارهم على ذلك من 1974 حتى 2011م، لم يمر مرور الكرام على الشعب، فاندلعت ثورتان فى 25 يناير 2011م، وفى 30 يونيو 2013م. فالإصرار على المغالطات، وهدم المشروع الناصري، يسهمان فى تجديد الناصرية، واستمرار المسألة الناصرية، ولا ننسى رفع صور عبد الناصر فى الثورتين.