الإعلام في خدمة الوهم
ادريس هاني
طُويت صفحة أسانج..واجبنا في زمن الغباء المصنّع أن نصدّق..انتهت تلك الحكاية التشويقية التي فاقت سلسلة هيتشكوك..في كلّ تسريبة لا بدّ من حدث تكتمل فصوله داخل غرف عمليات..سيناريو وإخراج وحوادث وذروة الحوادث..ليس ذلك غريبا..كنت أنتظر بعض القرائن على بدأ النهايات..وكان أن أسدل السّتار على صندوق باندورا الذي جاء في ذات السياق الذي انطلق فيه مشروع الشرق الأوسط على شرط الفوضى الخلاّقة..وهل ثمة فوضى أكثر من فضائح ويكيليكس؟
حتى الآن هو في نظري ذلك الضابط الذكي الذي أتقن دوره، وطني كبير، قدّم أكبر خدمة للمشروع الأمريكي في مرحلتين: مرحلة الحرب الناعمة حيث اعترف منظرها جوزيف ناي بأهمية وجدوى استثمار تسريبات ويكيليكس في برنامج القوة الناعمة..وأيضا في مرحلة الإرغام حيث مرحلة الابتزاز..والحقيقة أنّ أسانج أطال المكث في سفارة الإكوادور بلندن..خروج ممسرح وها هو أسانج في وضعية العجوز..حالة دراماتيكية..لم يعد ترامب في حاجة إلى أسانج بل لقد أغراه هذا الدور وأصبح يمارسه مباشرة على حسابه الخاص بتوتر..فالفضائح في مرحلة الإرغام لم تعد في حاجة إلى وسيط أو حبكة مسرحية كبيرة، بل لقد دخلت مرحلة التهريج..
الثابت في هذه السياسات هو قوة الخداع أمّا مدارس الخداع فلم تعد تتطلّب أكثر من براعة الرسوم المتحرّكة..تأمّل سترى أنّهم وقعوا في فخّ استغباء الرأي العام، الاستخفاف بالمتلقي الذي فاق المعتاد..هناك وهم وهناك قابلية للاستيهام..وكلّ شيء يمشي صفّا صفّا كفرقة كشّافة تنتمي إلى عالم العمّ دونالد..من سيناريو إلى آخر..الاختلاف في الشكل بينما المضمون مضرّ بالصّحة العقلية..ثورات تفتعل ليس لأنّ الشعوب غير محبطة..بل يستعجلونها بحلول تافهة ويرسمون لها خرائط طريق ويضعون في كلّ مسار كثير من قشرات الموز..وكل ذلك يجري أمام أعين النخب والشعوب التي تقسم على السوية في العلم والجهل..
الكلّ يفكّر ويساهم في تكريس الوهم..وإعلامنا جزء من شهادة الزّور ثم نتألّم ونساهم في الضجيج الذي يعكس اختلافا عرضيا بينما الكلّ يساهم في جوهر التّفاهة..نشارك كجزء من كومبارس في هذه البكائية والصورة الدراماتيكية التي تقدّمها الإمبريالية على رأس كل مخطط جهنّمي..نساهم في هذا المهرجان الذي تُعتمد فيه الخطط الجديدة..سيأتي زمن سنقرأ فيه الحوادث في كتاب لعبة الأمم، لكن حتى اليوم كلّ شيء يُقرأ بعين العفوية..نبكي ونساهم في توديع جيل من الخطط فذاك هو شرط وجودنا..
ملعونة تنميتنا، ملعونة ثوراتنا، ملعونة سياساتنا، ملعون إعلامنا السّاذج..سرعتنا في التفاعل مع الحدث..أين ثقل المعنى والرّويّة وتفكيك الخطاب وأركيولوجيا المعرفة؟
نحن أحجار على رقعة الشطرنج..أحجار ناطقة تملك أن تتفاعل مع حركات الاّعبين وتحسب أنّها تصنع الحدث، وتطرب لنفسها ليتها سكتت وكانت أحجارا فحسب..ما يجري حتى اليوم لا علاقة له بالتّاريخ..فالتاريخ ليس عبثية بل مسار حاسم، بينما اللّعب يسعى للتحكم وتغيير أثر النّبوءة..فعل ديابوليكي..تشويش وربح وقت.. جملة الأحداث التي تحاصرنا اليوم هي تشويش مصطنع ومفتعل وأحيانا يسخر منّا..جزء منه أوهام افتراضية..محاولة تغيير التاريخ من خلال صخب التغريدات في تويتر..حتى تاريخنا هذا المزيف بات ملعونا..ومع ذلك تنتفخ أوداج إعلامنا لأنّ همّه أن يمرر اليوم والليلة على قدر من معدل السبق والمشاهدة يمنحه رتبة مقبولة في التنقيط..الوهم جزء من صناعة الإعلام..فهو يسابق الرأي العام في تمثلاته الوهمية..إنّه يقدّم ما يطلبه الجمهور..إنّ الإعلام في خدمة ميل الرأي العام إلى الوهم ومتعة المفارقة..وهو في ذلك يساهم في صرعة الغباء ويؤخّر من فرص اليقظة ويساهم في تيسير المهمّة على الإمبريالية التي لا زلنا لم نكتشف مداخلها السّريّة ومخرجاتها الفعلية..فقه الإمبريالية..كثيرة هي مظاهر الإمبريالية تختبئ في عباءات ثورية، مناهضة، حرّة، تقدّمية..وهو الشكل الأخطر من فقه الإمبريالية حين تصبح هذه الأخيرة تزفّ برنامجها من البوابة الخلفية للإعلام المستثمر في عناوينها..الإعلام نفسه يتغذّى على الوهم ويعيد إنتاجه لفائدة الجمهور..إنها لعنة مركّبة..
ادريس هاني:11/4/2019