مفتاح التسوية التاريخية في لبنان كتلة شعبية لبناء دولة مدنية ديمقراطية بإستفتاء عام
د. عصام نعمان
لبنان كيان العجائب والغرائب. اولى عجائبه انه بلا دولة مذّ أرسى المستعمرون الفرنسيون قواعد كيانه العام 1920. وهو كيان بثماني عشر طائفة وملّة . كل منها تشكّل دويلة قائمة بذاتها ومعترف بها من سائر أقرانها كما من معظم دول العالم .
ثانيةُ عجائبه ان دستوره المعتمد نظرياً منذ العام 1926، ظلّ في معظم مواده الاساسية غير مطبّق او هو مطبّق جزئياً او ظرفياً. دستوره الفعلي هو توافق متزعمي طوائفه وجماعاته ، ظرفياً ، على ما يعتقدون انه يفي بمصالحهم او بمعظمها ، حتى اذا تغيّرت موازين القوى الاقليمية والدولية وانعكست على موازين القوى المحلية ، برزت الحاجة والضغوط مجدداً الى تسوية مغايرة لتفادي التأزم الماثل.
ثالثةُ عجائبه ولادة عصبية راسخة لدى كلٍّ من طوائفه جمعت بين افرادها ورسّخت ولاء لها فوق الولاء المفترض للكيان السياسي الاكبر الذي يضمها.
رابعةُ عجائبه ان شبكة سياسية متحكّمة حكمت الكيان ، اي النظام الطوائفي ، منذ الإستقلال العام 1943 حتى الوقت الحاضر. هذه الشبكة كانت ، وما زالت ، مؤلّفة من متزعمين في طوائف ، ورجال اعمال واموال يتعاطون السياسة، ومتنفذين في الجيش واجهزة الامن . وهي تعيد انتاج نفسها من خلال قوانين للإنتخابات النيابية تؤمّن إنجاح مرشحيها وأتباعها.
خامسةُ عجائبه صعوبة نشؤ توافق شعبي وطني عابر للطوائف قادر على تجاوز الشبكة المتحكمة وسياساتها وترتيبات سيطرتها على مقاليد السلطات والمؤسسات وموارد البلاد . هذا التوافق المنشود لم يتكوّن إلاّ ثلاث مرات: الاولى عندما اعتقلت السلطات الإستعمارية الفرنسية أركان الحكومة العام 1943 لقيامهم بشطب صلاحيات المفوض السامي الفرنسي من احكام الدستور. المرة الثانية عندما اضطر رئيس الجمهورية بشارة الخوري الى تقديم استقالته العام 1952 بفعل السخط الشعبي المتعاظم والاضراب العام إحتجاجاً على تعديل الدستور لتجديد ولايته العام 1949 وسؤ الادارة والفساد السائدين . المرة الثالثة عندما حاول رئيس الجمهورية كميل شمعون تعديل الدستور لتجديد ولايته بإجراء انتخابات مزوّرة العام 1957 ما أدى الى انفجار شعبي عارم متزامن مع مدٍّ شعبي متعاطف مع الرئيس جمال عبد الناصر ووحدة مصر وسوريا العام 1958 ، أحبط محاولته .
غير ان هذه الإنتفاضات الشعبية الثلاث العابرة للطوائف لم تتمكّن من تجاوز هيمنة الشبكة السياسية المتحكمة التي استطاعت إستيعابها واحتواءها بإجتراح توافقات وتسويات اعادت انتاج سيطرتها على مقاليد السلطات والمؤسسات وموارد البلاد . القاعدةُ الاساسية في هذه التسويات ، التي ما انفكّت تحكم لبنان على مرّ تاريخه السياسي المعاصر ، هي المحصاصة بما هي معادلات متطورة لتوزّع السلطة والنفوذ والمصالح والمغانم بين اركان الشبكة المتحكمة ووكلائهم .
اليوم يجد لبنان نفسه ، مرة اخرى ، في غمرة فصلٍ جديد من ازمته المزمنة ، ازمة نظامه الطوائفي المركانتيلي المنخور بالفساد والمحاصصة، والمحاصر بمخاطر وتحديات مصيرية (اسرائيل) ومالية (الدين العام المتعاظم) واقتصادية (غلاء المعيشة وتقليص الضمانات الاجتماعية واعباء النازحين السوريين) وتنموية (تعطيل المشروعات والمجهودات الإنمائية).
إذّ يعمّ السخط وتتوالى الإضرابات وتتعمّق الإنقسامات بين اركان الشبكة السياسية المتحكمة، وتتزايد المخاطر والتحديات الخارجية والمصيرية ، تتعاظم الحاجة الى تسوية مغايرة ، تسوية تاريخية جذرية تضع حدّاً لإستمرار ازمة لبنان المزمنة التي تعيد الشبكات السياسية المتحكمة إنتاجها مع كل تسوية ظرفية قاصرة ومقصرة عن معالجة اسبابها العميقة والظاهرة في آن. فما العمل ؟
لعل التحدّي الرئيس الذي يواجه اللبنانيين ، مسؤولين ومواطنين : هو توليد فريق قيادي وطني تقدمي انمائي ، عابر للطوائف ، ذو رؤية ومنهاج، طويل النَفَس ، ملتزم وناهض للعمل والنضال من اجل تحويل تيار السخط الشعبي العام الى كتلة شعبية ذات اهداف وطنية وسياسية واجتماعية صالحة لأن تكون مضموناً وحافزاً لتوافق شعبي وطني عابر للطوائف ولمختلف الجماعات الفئوية ، وقيادتها تالياً بصبر وأناة وثبات بنضالٍ موصول لمحاصرة الشبكة المتحكمة ووكلائها ، وتعطيل اعتمادها على تحالفات خارجية ، والضغط عليها بكل الوسائل المشروعة لحملها على الرضوخ لمشروع الدولة المدنية الديمقراطية والإصلاحات الجوهرية المتوجبة ، على ان تقوم الدولة المنشودة رسمياً بإستفتاءٍ شعبي عام فتكون بذلك عاملةً من اجل ترسيخ قيم ومؤسسات الحرية وسيادة القانون والعدالة والتنمية والإبداع الحضاري .
تكون الكتلة الشعبية وتنهض او يبقى اللبنانيون اسرى الشبكة السياسية المتحكّمة الى ابد الآبدين.