نكبة أمّة بأسرها!
د.صبحي غندور*
لقد سبق إعلان “المجلس اليهودي الصهيوني” في فلسطين لدولة “إسرائيل” في 14/5/1948، أي قبل 71 عاماً، ومطالبته لدول العالم الاعتراف بالدولة الإسرائيلية الوليدة عشيّة انتهاء الانتداب البريطاني، سبق ذلك، عشرات السنين من التهيئة اليهودية الصهيونية لهذا اليوم الذي أسماه العرب والفلسطينيون بيوم النكبة. وكان خلف هذا الإعلان منظّمة صهيونية عالمية تعمل منذ تأسيسها في العام 1897 على كلّ الجبهات، وهي التي حصلت من بريطانيا على “وعد بلفور” الشهير ونظّمت هجرة يهودية كبيرة للأراضي الفلسطينية على مدار أكثر من ثلاثة عقود، مروراً بحربين عالمتين استثمرت الحركة الصهيونية نتائجهما لصالح “خطّة إقامة دولة إسرائيل”، كما ربطت مصالحها الخاصة بمصالح دول كبرى بسطت سيطرتها على المنطقة العربية بعد انهيار الدولة العثمانية.
فأين هو التخطيط والتنظيم، على المستويين الفلسطيني والعربي، في مقابل ما حدث من تخطيط وتنظيم صهيوني يستمرّ الآن لأكثر من مائة عام؟!.
طبعاً، هناك متغيّرات كثيرة حدثت في العقود السبعة الماضية، دولياً وعربياً وفلسطينياً، لكن العودة الآن إلى تفاصيل ما حدث في القرن الماضي، مردّه ما قامت به إدارة ترامب من تبَنٍّ كامل لأجندة إسرائيلية متطرّفة ترفض وجود دولة فلسطينية مستقلّة وتقضم الأراضي المحتلّة في القدس والضفة الغربية وهضبة الجولان، من خلال تعزيز الإستيطان اليهودي فيها وضمّها لإسرائيل، مع إسقاطٍ كامل لحقّ العودة من أجل تصفية نهائية للقضية الفلسطينية تأمل إسرائيل بأن تحصل بما ستعلنه إدارة ترامب من خطّة “صفقة القرن”.
فإسرائيل اعتمدت وتعتمد فقط على منطق “حقّ القوة”، مقابل اعتماد رسمي فلسطيني وعربي على منطق “قوّة الحق” .. وفقط عبر مبادرات سياسية ومفاوضات واتّصالات ومراهنات على قوى كبرى ومؤسّسات دولية، بينما المنطق العملي الذي يؤكّده التاريخ يقول: “إنَّ الحقّ بغير قوّة هو حقٌّ ضائع”، وأنَّ “الجنوح للسلام” يعني أصلاً أنَّ “الحقّ” هو كالطير له جناحان: جناح العمل للسلام وجناح الاستعداد لاستخدام القوّة، فأين السلطة الفلسطينية والبلاد العربية من هذا الجناح الأخير! وهل يكفي لتحقيق الحقّ التلويح فقط بأغصان زيتون المبادرات العربية ومعظمها يابسٌ الآن؟!.
الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة استفادت وتستفيد من الظروف الدولية والعربية والفلسطينية على مدار عقودٍ من الزمن إلى أقصى الحدود الممكنة، وهي تفرض شروطها ومطالبها على العالم ككل، فلِمَ انقلبت الأمور عربياً بعد حرب العام 1973 التي يُفترض أنّها كانت نصراً للعرب، عمّا كانت عليه بعد حرب 1967 التي يُفترض أنّها كانت هزيمة للعرب؟!.
فمِن شعاراتٍ حافظ عليها العرب بعد حرب 67 : “لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف بإسرائيل قبل انسحابها من الأراضي المحتلّة عام 1967″، إلى التسابق للاعتراف والتفاوض والصلح مع إسرائيل، كما حدث بعد اتّفاقيات كامب دافيد ثمّ بعد مؤتمر مدريد واتّفاقيات “أوسلو”؟!.
أيضاً، بعد حرب 1967، كان العرب يتحرّكون وفق إستراتيجية شاملة وواضحة للتحرير، فيها الجمع بين العمل الدبلوماسي والاستعداد العسكري، بين قبول قرارات دولية وبين حرب استنزافٍ مفتوحة على الجبهة المصرية وعمليات متعدّدة للمقاومة الفلسطينية. أمّا في “الزمن الصهيوني” الراهن، فإنّ العجز الرسمي العربي وصل إلى أقصاه حيث لا بدائل عربية ممكن فرضها مقابل مشاريع “سلام” أميركية، ولا إستراتيجية شاملة واحدة حتّى لدى القيادات الفلسطينية نفسها!.
وإذا كانت المنطقة العربية عاجزةً عن التحرّك إلى الأمام، فلِمَ إستباحة التراجع إلى الوراء؟ ولِمَ لا يقف العجز الرسمي العربي والضعف الرسمي الفلسطيني عند سقفٍ معيّن من التراجعات؟ فأساس المشكلة الآن هو الوضع الرسمي العربي الذي يكتفي بالمبادرات السياسية دون أيّة خططٍ عملية لفرض هذه المبادرات، ثمّ أنّ العرب منشغلون اليوم في “جنس الشياطين” من بعض الحكّام أو المعارضين بينما أبواب أوطانهم تُخلَع واحداً بعد آخر، بل إنّ أساسات بعض هذه الأوطان تتهدّم وتتفكّك ليُبنى عليها “مستوطنات” صهيونية جديدة بأسماء طائفية أو إثنية!.
ففي منطقةٍ عربية يزداد فيها الآن استخدام شعار: “الطائفة أوّلاً”، يترسّخ واقع خدمة مصالح “إسرائيل أوّلاً”. فإسرائيل هي المستفيدة الأولى من الواقع العربي عموماً بما هو عليه من حال الصراعات والتشرذم وانعدام وحدة الموقف، ومن الفوضى في العلاقات والمؤسّسات العربية، ومن ممارسات عُنفية حدثت وتحدث إمّا من قِبَل جماعاتٍ إرهابية أو دفاعاً عن نظامٍ أو سعياً لإسقاطه!.
ما تحتاجه الآن القضية الفلسطينية هو أكثر ممّا جرى من ردود فعلٍ شعبية وسياسية على قرار ترامب بشأن القدس، وأيضاً أكثر من الحراك البطولي الشعبي الفلسطيني المستمرّ في القدس وفي الضفّة الغربية وغزّة، فهي تحتاج إلى انتفاضة شعبية فلسطينية شاملة تضع حدّاً لما حصل في ربع القرن الماضي من تحريفٍ لمسار النضال الفلسطيني، ومن تقزيمٍ لهذه القضية التي كانت رمزاً لصراع عربي/صهيوني على مدار قرنٍ من الزمن، فجرى مسخها لتكون مسألة خاضعة للتفاوض بين “سلطة فلسطينية” في الضفّة الغربية وبين “الدولة الإسرائيلية” التي رفضت الاعتراف حتّى بأنّها دولة محتلّة، كما رفضت وترفض إعلان حدودها النهائية.
وكما كان من الخطأ الكبير تصغير حجم القضية الفلسطينية في مجال العمل السياسي والمفاوضات، سيكون كذلك من الخطأ الآن تحجيم ردود الفعل الفلسطينية وكأنّها ضدّ مشروع “صفقة القرن” فقط. فالمطلوب فعلاً هو وحدة القيادة الفلسطينية ووحدة برنامج العمل على مستوى كلّ المنظّمات الفلسطينية الفاعلة داخل الأراضي المحتلّة وخارجها، ففي ذلك يمكن أن يتكامل أسلوب العمل السياسي ومسار التفاوض، مع أسلوب المقاومة الشعبية الشاملة في كلّ المناطق الفلسطينية، ومع أسلوب المقاومة المسلّحة حينما يضطرّ الأمر إلى ذلك.
إنّ مشكلة الانقسام الفلسطيني ازدادت حدّةً بعد توقيع اتّفاقيات “أوسلو” والتي ثبُت، بعد 25 عاماً، عجزها عن تأمين الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. وتستفيد إسرائيل طبعاً من تداعيات الحروب الأهلية العربية، ومن الموقف الأميركي الذي يساهم الآن في دعم أجندة نتنياهو وسياسته في التعامل مع الملفّ الفلسطيني.
فالتصريحات التي تصدر عن “البيت الأبيض” وأعضاء في الكونغرس بشأن القضية الفلسطينية، كلّها تكرّر ما يقول به نتنياهو من تشويه لحقائق الصراع العربي والفلسطيني مع إسرائيل. فتعبير “الاحتلال الإسرائيلي” أصبح مغيَّباً عن المواقف الرسمية الأميركية ومهمَّشاً كثيراً في الإعلام الأميركي، كذلك هي مسألة الإستيطان في الأراضي المحتلة.
لكن المصيبة ليست في الموقف الأميركي فقط أو في بعض المواقف الدولية الأخرى، فالأوضاع العربية مسؤولة أيضاً عن حجم المأساة التي عاشها ويعيشها الشعب الفلسطيني. وحدة القيادة الفلسطينية هي العنصر الأهمّ المفقود حالياً، وكذلك الحدّ الأدنى من التضامن الرسمي العربي ضدّ إسرائيل والسياسة الأميركية الداعمة لها. ذلك هو الواقع الآن، إضافةً إلى استمرار حروبٍ وأزمات أهلية عربية بأشكال مختلفة، وتزايد عوامل التفكّك لا التوحّد في المجتمعات العربية. فكيف لا تستفيد حكومة نتنياهو وإدارة ترامب من هذا الواقع العربي المزري، وكيف يأمل البعض بتغيير المواقف الأميركية والدولية لصالح الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني؟!.
ربّما هي فرصةٌ هامّة الآن لإعادة الحيوية للقضية الفلسطينية، التي جرى تهميشها عمداً في السنوات الماضية، وبالتالي تصحيح “البوصلة” العربية، بعدما تسبّبت “معارك داخلية عربية” بفقدان معيار معرفة الصديق من العدوّ!.
ما حدث في فلسطين في منتصف القرن الماضي كان “نكبة كبرى” للشعب الفلسطينيي وللأمّة العربية، لكن كان أيضاً سبباً لإشعال ثورات تحرّر وطني ضدّ من ساهموا في حصول النكبة من قوى دولية وحكوماتٍ محلّية، ولانطلاق حركات المقاومة الفلسطينية. وهذا درسٌ مهّمٌ لمن يريديون العبث الآن بمصير الأمّة العربية كلّها.
*مدير “مركز الحوار العربي” في واشنطن