حرب “الناقلات”.. وموازين القوى
د. جمال زهران
تعرف موازين القوى، بذلك التقارب بين القوى المتنافسة أو المتصارعة، سواء على المستوى الإقليمي أو المستوى الدولي. فليس هناك تطابق بين القوى، لأن كل طرف يمتلك من القدرات (عتاد أو موارد)، قد تختلف عن الطرف أو الأطراف الأخرى، ولكنها تتقارب في النوعية التي لا يفهمها إلا الخبراء، بينما الأعداد قد يتم إحصاؤها بغض النظر عن النوعية. فقد تتطابق الأعداد، لكن لا تتطابق النوعية، ولذلك فإن المصطلح الدقيق من وجهة نظري هو: “التقارب في القوى” لا التطابق. أما عن مفهوم القوة، فقد سبق أن تناولناه من قبل، بأن القدرة التي يمتلكها طرف أو عدة أطراف أخرى، والتي يدركها الطرف الآخر، والتي تجعل هذا الطرف أو ذاك قادرًا وراغبًا في التصرف بما يحقق أهداف الطرف الأول. ومن ثم فإن الحروب تأتي في إطار توافر فجوة القوة بين طرفين متنافسين لصالح طرف دون آخر، وهو الذي يسمى في علم العلاقات الدولية بـ “فجوة القوة”. فيصبح الطرف الأول البادئ بالعدوان هو من يشعر بأنه يمتلك من القوة، ما يجعله في حالة تفوق على الطرف الآخر. ويخطئ كثيرون، عندما يتصوروا أن طرفًا واحدًا قد يواجه طرفًا آخر، إلا في ظل ظروف دولية وإقليمية تساعد في ذلك. فنجد دولة كبرى كأمريكا تضرب أفغانستان وتحتلها عام 2001م، ثم العراق تضربها وتسقط نظام صدام حسين وتحتلها بعد أن دمرتها وقسمتها شعبًا وأحزابًا ورحلت مع اشتداد المقاومة، رغم استمرار قواعدها العسكرية. والسبب في قيامها بذلك، هو النظام الإقليمي المؤمم لحسابها غالبًا، والنظام الدولي الذي اختفى فيه التنافس والتعددية، وكان تحت سيطرتها وهيمنتها وحدها آنذاك.
ومنذ أن اعتدل النظام الدولي، مواكبًا تفجر الثورات العربية والبداية تونس بنهاية 2010م، ثم مصر 2011م، وانفجار الأوضاع في ليبيا حتى وصلت إلى ما آلت إليه، ومحاولة تحريك الأوضاع في سوريا بوهم اندلاع ثورة، كانت المفاجأة وهي بزوغ نجم روسيا في النظام الدولي، وتمرتسه في سوريا، وعدم السماح لأحد بإسقاط نظامها مثلما حدث في العراق. وكانت النتيجة بعيدًا عن التفاصيل، هو أن أصبحت سوريا ومن بعدها أوكرانيا، محطتين كاشفتين، عن تغيرات هيكل النظام الدولي وتفاعلاته، بأن أصبح “ثنائيًا” بعد أن كان “واحديًا”. الأمر الذي أدى بالحيلولة دون تمكين القطب الأمريكي في فعل ما يريد بالمنطقة من جانب، وتنفيذ استراتيجياته في الهيمنة على مقدرات المنطقة العربية بالكامل. وعلى المستوى الإقليمي فقد تغير الوضع بانتصار محور المقاومة في سوريا ومعها لبنان والعراق، والمقاومة العتيدة في اليمن، وفي الخلف إيران الدولة الإقليمية المحورية. وقد أدى هذا الانتصار إلى حدوث توازن قوى إقليمي، في ظل توازن قوى دولي. ولهذا الوضع آثاره المباشرة على محاولات الطرف الأمريكي مجابهة إيران بالحصار والتهديد بالحرب، وادخال أطراف أخرى في المشهد، مثل بريطانيا مباشرة، وألمانيا واليابان (وسطاء) لتهدئة الأمور من ناحية أخرى.
وقد أعلنت أمريكا رسميًا على لسان ترامب ووزير خارجية (بومبيو)، أن أمريكا ليست في حالة حرب مع إيران، ولن تحاربها، ومستمرة في الحصار وتدعوها للتفاوض على اتفاق جديد بخصوص الملف النووي!! إذن انسحبت أمريكا من محاولة التهديد بالحرب على إيران، وتراجعت. ثم بدأت حرب الناقلات، بمحاولة الضرب والتدمير والاغراق، واتهام إيران بقيامها بذلك، وثبت فشل هذه الاتهامات. وأخيرًا أعلنت الإفراج عن الناقلة الإيرانية دون قيد أو شرط، وفي المقابل إفراج إيراني عن الناقلة البريطانية!!
وهنا نقول في ظل هذا العرض، أن منهج توازن القوى وقوة الدولة، منهج صالح لتفسير ما يحدث في منطقة الخليج العربي، وأن حربًا متوقعة أو هجومًا أمريكيًا، أو تخديمًا بريطانيًا، هو خيار فاشل وأصبح مستحيلاً. ولا خيار سوى التفاهم والحلول السلمية وفك الحصارات حول محور المقاومة في إيران وسوريا أساسًا وحل المشكلات في اليمن وليبيا واستقرار العراق بالرحيل النهائي لأمريكا. وعلى العرب إدراك الأمور بشكل سليم وعدم الانزلاق أكثر في طريق الخطأ والخطيئة التاريخية، وأن عدونا الاستراتيجي سيظل هو إسرائيل، إلى أن تتحرر فلسطين كاملة.
د. جمال زهـران