ما حلّ بنا بعد سقوط الجدار
عبدالله السناوي
لم يكن سقوط جدار برلين، قبل ثلاثين عاماً، حدثاً عابراً سرعان ما يطوي صفحاته وصوره في ذاكرة الزمن. بسقوط الجدار يوم 9 تشرين الثاني / نوفمبر 1989، اختتمت قصة القرن العشرين بضربات المعاول، فيما أعلنت بدايته على دوي المدافع في الحرب العالمية الأولى (1914 ــ 1918).
بين الإعلان الدموي والاختتام المدوي تبدّت حقائق قوة جديدة، نشبت ثورات وصراعات أفكار لا عهد للعالم بها من قبل، نشأ نظام عالمي جديد إثر حرب عالمية ثانية أكثر وحشية واتساعاً من الأولى، وحكم توازن الرعب النووي قواعد اللعبة الدولية عند القمة.
بين البداية الفعلية للقرن ونهايته الرمزية، سُلبت وقُسّمت وحوصرت أوطان، وأُجهضت تطلّعات وأحلام في هذا الجزء من العالم طلباً للاستقلال والوحدة.
عندما سقط جدار برلين، انقضى نظام عالمي كامل من دون أن يتأسّس على أنقاضه نظام جديد، ودخل العالم على مدى ثلاثين عاماً في ما يشبه «دوار البحر»، أو حالة من السيولة في العلاقات الدولية.
لا الولايات المتحدة أثبتت قدرتها على القيادة المُنفردة للعالم بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، رغم فوائض القوة التي تحوزها، ولا قواعد التعددية القطبية تبلورت في معادلات قوة حاكمة رغم الصعود الاقتصادي الصيني واستعادة روسيا لحضورها الدولي في الشرق الأوسط على الخصوص، وبروز الاتحاد الأوروبي وتأكيد حضوره بعد توحيد الألمانيتين الشرقية والغربية إثر سقوط الجدار. ولا كان هدم الجدار هو «نهاية التاريخ»، ولا الرأسمالية استطاعت فرض كلمتها الأخيرة مهما توحّشت.
وسط ذلك كله، دفع العالم العربي أثماناً باهظة للتحولات العاصفة التي جرت في العلاقات الدولية، استُبيحت مصالحه وقضاياه كما أمنه ووجوده، رُسمت خرائط لتقسيمه وأهدرت القوانين والمرجعيات الدولية في القضية الفلسطينية، التي كانت توصف بأنها قضية العرب المركزية.
هناك من يتصور خطأً أننا كنّا شهوداً من بعيد نتابع سقوط جدار برلين على شاشات الفضائيات، كأنه حدثٌ لا شأن لنا به سوى التعاطف الإنساني مع شعب مزّقته الحرب العالمية الثانية إلى دولتين يتطلع لاستعادة وحدته في مشاهد بليغة ومؤثرة. لقد كنا ــ بالتبعات ــ في قلب العاصفة.
ذات مرة، كتب الفيلسوف الوجودي الفرنسي «جان بول ساتر» أن «لكل قرن فلسفة تهيمن عليه». كان تقديره أن الماركسية هي الفلسفة الأكثر تأثيراً ونفاذاً في قصة القرن العشرين، رغم أنه كان يقف على الجانب الآخر في صراع الأفكار الكبرى. في شريط سينمائي ألماني أُنتج عام ٢٠٠٣ باسم «وداعاً لينين»، لخّص مشهد واحد بعض تراجيديا ما جرى بعد انهيار الجدار، الذي أعقبه سقوط الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية كلها. كانت هناك مروحية تحلّق فوق العاصمة الألمانية برلين متدلياً منها بحبال من صلب تمثال ضخم لزعيم الثورة البلشفية ومفكرها الأكبر «فلاديمير اليتش لينين»، بينما ناشطة في الحزب الشيوعي الألماني تؤمن بأفكاره ترقب المشهد غير مصدقة. مالت المروحية قليلاً فبدت حركة التمثال كأن «لينين» يمد يده للناشطة الألمانية بالمصافحة الأخيرة. أراد الشريط السينمائي أن يقول إن كل شيء قد انتهى. بدأ عصر ألماني جديد تلخصه إعلانات الـ«كوكاكولا» والمنتجات الغربية في شوارع الشق الشرقي من برلين. هذه هي الحقيقة التي كان يخشى على الناشطة المصدومة أن تواجهها، بعدما أُصيبت بغيبوبة امتدت لأشهر تغيّرت فيها ألمانيا وتغيّر العالم.
من زاوية ما ــ صحيحة وموضوعية ــ أسست الثورة البلشفية التي قادها لينين، بكل ما حملته من تجربة في الحكم وما تولّد عنها من سياسات وما تبنّته من استراتيجيات، لانقلاب كامل في بنية النظام الدولي، بدأت مقدماته قبل نهاية الحرب العالمية الأولى بعام واحد، واستكملت حقائقه بعد الحرب العالمية الثانية. انقسم العالم أيديولوجياً واستراتيجياً واقتصادياً إلى معسكرين كبيرين بعد انتهاء الحرب الأخيرة. صراع على النفوذ من قبل قطبين عظيمين هما الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة في ما يعرف بـ«الحرب الباردة»، التي انتهت بانهيار جدار برلين وتقوّض حلف «وارسو» ــ الذي كان يقابل حلف «الناتو» على الجانب الآخر. بعد ثلاثين عاماً، يوشك «الناتو» على أن يتفكك بدوره.
في إشارة لافتة، قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إن الحلف «في حالة موت سريري»، داعياً إلى منظومة أمنية وعسكرية أوروبية بعيداً عن «الناتو» والولايات المتحدة. تلك الإشارة تخص العالم العربي ومستقبل أمنه، أكثر ممّا تخص أوروبا. فإذا لم يقدر العرب على صون أمنهم بأنفسهم، فإن أحداً لن يتكفل بالمهمة نيابة عنهم، إلا أن تكون مدفوعة الأجر، كما يعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، من وقت إلى آخر. أرجو أن نتذكر أن العالم العربي لم يكن خارج الاستقطاب الفكري والسياسي، الذي صاغ مرحلة الصراع الدولي قبل سقوط جدار برلين والاتحاد السوفياتي بعده. حاولت مجموعة دول عدم الانحياز بقيادة جمال عبد الناصر ــ مصر وجواهر لال نهرو ــ الهند وجوزيب بروز تيتو ــ يوغوسلافيا، اختراق النظام الدولي الثنائي القطبية وتأسيس آخر وفق مبادئ «باندونغ».
لم يعنِ ذلك الوقوف على مسافة متساوية بين المعسكرين المتصارعين، فقد كان التحرّر الوطني القضية الأكثر مركزية على أجندة الدول المستقلة حديثاً. بانفراد القوة الأميركية بالنظام الدولي تعرّض العالم العربي، أكثر من غيره، لما يشبه التحطيم لمصلحة ما تطلبه إسرائيل، ما جرى في العراق مثالاً.
كان مثيراً أن أكثر من ابتهجوا لسقوط الاتحاد السوفياتي هم أنفسهم الذين دفعوا غالبية الفواتير. لم يعد إرث لينين ذو الأثر الفكري والسياسي، الذي ساد غالبية سنوات القرن العشرين، والذي أسّس لنظرة تتجاوز تجربته إلى حركة المجتمعات الإنسانية في طلب العدالة الاجتماعية. طورت الرأسمالية من نفسها تحت ضغط الأفكار الاشتراكية، ونشأت في كنف الدول الغربية حركات جديدة أطلق عليها «الشيوعية الأوروبية» ــ بتأثير أفكار رجال من حجم تولياتي وغرامشي في إيطاليا ــ دمجت ما بين الفكرتين الاشتراكية والديموقراطية.
نشأت في أوروبا الشرقية نزعة قوية أطلق عليها «الاشتراكية بوجه إنساني»، تجسّدت في «ربيع براغ»، إثر وصول الكسندر دوبتشيك إلى السلطة زعيماً للحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي. تبنّى تجديد الاشتراكية ونزع ثقافة الخوف وإشاعة الديموقراطية والحريات الصحافية، لكن مشروعه جرى سحقه بدبابات «حلف وارسو»، الذي كان يقوده الاتحاد السوفياتي، في آب / أغسطس ١٩٦٨.
كانت النهايات محتمة، لكن حركة التاريخ لا تتوقف. جرت مقاربات جديدة حاولت أن تزاوج بين اقتصاد السوق والتخطيط المركزي ــ التجربة الصينية نموذجاً ــ أو أن تؤسس لمدرسة اقتصادية ضد التبعية ــ تجربة أميركا اللاتينية مثالاً. بعد سقوط جدار برلين نشأت صدامات أفكار من نوع جديد اتخذت عنوان «صراع الحضارات»، وكانت تلك رؤية متعسفة للتاريخ، فكل حضارة أخذت وأضافت للإرث الإنساني المشترك، أو كما يقال: إنها حضارة واحدة بروافد مختلفة. نشأت موجة شعبوية غربية ضد الأقليات العربية والمسلمة كانت الوجه الآخر لتوحّش الإرهاب باسم الدين قتلاً وترويعاً، كلاهما تغذى على الآخر. بذرة الإرهاب الدولي رعتها الاستخبارات الأميركية فوق جبال أفغانستان للنيل من الاتحاد السوفياتي، وعندما عاد المجاهدون إلى بلدانهم بدأت ظواهر العنف تأخذ منعطفاتها الخطرة.
ما يستحق أن نواجه أنفسنا به أن دولاً عربية عديدة دعمت بالتمويل والتسليح والدعاية حروب الاستخبارات الأميركية في أفغانستان. الأخطر من ذلك التواطؤ، أننا كنّا بالتخاذل طرفاً رئيسياً محرّضاً على كل تنكيل حلّ بنا والقصة طويلة ومريرة.
* كاتب وصحافي مصري