تركيا بين علمانية أتاتورك وإسلام إردوغان
حسني محلي
المذكرات العثمانية لم تمنع آل سعود وملوك وأمراء الخليج من التحالف مع إردوغان خلال ما يسمى بـ”الربيع العربي”، وهم الآن بمعظمهم، ضد إردوغان وإسلامه العثماني التركي طالما أنه يتصرف كزعيم سياسي وروحي لكل الإسلاميين في العالم.
أحيت تركيا في 10 من الشهر الجاري الذكرى الـ 81 لوفاة مصطفى كمال أتاتورك مؤسس الجمهورية التركية الحديثة عام 1923، والتي أراد لها مؤسسها أن تكون علمانية وتتجه نحو الغرب.
تعرضت هذه الجمهورية منذ اليوم الأول لقيامها، بل وخلال حرب الاستقلال التي قادها أتاتورك، إلى تمردات “إسلامية” سعت إلى عرقلة المسار العلماني الذي اختاره أتاتورك وسار عليه حتى توفي عام 1938. من بعده حافظ جميع رفاقه ومن تربى على أياديهم على هذا المسار الذي كان العسكر من أهم حماته.
وكان الزعيم الراحل نجم الدين أربكان منذ دخوله المعترك السياسي أواسط الستينات من القرن الماضي الرمز الوحيد والمؤثر على صعيد العمل الإسلامي الذي كان دائماً موالياً لأميركا ضد الاتحاد السوفياتي والشيوعية، التي كانت تهدد تركيا والإسلام، على حد قول وقناعة الإسلاميين الأتراك، حالهم في ذلك حال الإسلاميين العرب والآخرين. نجحت أميركا في استغلال واستفزاز هذه المشاعر والقناعات الدينية ضد الاتحاد السوفياتي خلال سنوات الحرب الباردة، خصوصاً بعد اللقاء التاريخي الذي جمع الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت والملك عبد العزيز آل سعود في 14فبراير/ شباط 1945، حيث أصبحت المملكة بأموالها ودينها ومذهبها الوهابي في خدمة واشنطن لتكونا معاً وراء كل الحركات الإسلامية السياسية المعتدلة منها والمتطرفة، كما هو حال القاعدة وطالبان وباقي فصائل المجاهدين الأفغان التي كانت تتغذى عقائدياً وفكرياً من النهج الإخواني الذي انطلق من مصر بعد 5 سنوات على قيام جمهورية أتاتورك العلمانية.
ومن المعلوم أن السلطان سليم كان أعلن نفسه خليفة للمسلمين في القاهرة بعد انتصاره في معركة الردانية 22 يناير/كانون الثاني 1517 على المماليك، وهؤلاء من الأتراك في أصلهم.
وجاء استلام حزب “العدالة والتنمية” للسلطة في تركيا 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2002 ليدفع الجميع في الغرب إلى الاستعجال في وضع الخطط الجديدة الخاصة بالمنطقة التي تحدثت واشنطن عن ضرورة تشجيعها من أجل الديمقراطية في إطار ما يسمى بـ”مشروع الشرق الأوسط الكبير”.
وكان رئيس الوزراء آنذاك رجب طيب إردوغان من أهم أركان هذا المشروع بعد أن تحدث الغرب عن تسويق التجربة التركية إلى المنطقة العربية باعتبارها تجربة نموذجية ساعدت الإسلاميين على الوصول إلى السلطة ديمقراطياً في بلد علماني شعبه مسلم وتاريخه عثماني بملامح قومية تركية.
وجاء “الربيع العربي” ليتيح الفرصة للجميع وفي مقدمتهم إردوغان ورفاقه، لتطبيق هذا النموذج ولاسيما بعد وصول الإسلاميين إلى السلطة في تونس ومصر واليمن ولاحقاً في ليبيا. إذ أعلن هؤلاء الإسلاميون العرب ومعهم حركة حماس “بيعتهم” للرئيس إردوغان الذي استنفر كل إمكانيته “المطعمة بخطاب طائفي” لإسقاط الرئيس السوري بشار الأسد باعتباره العائق الرئيس الذي يمنعه من تحقيق أحلامه في الخلافة والسلطنة.
وكان إردوغان أعلن في سبتمبر/أيلول 2012 أنه سيصلي قريباً في الجامع الأموي بدمشق، في إشارة منه إلى صلاة السلطان سليم هناك بعد معركة مرج دابق بتاريخ 24 أغسطس/آب 1516.
بعد 500 عام على تلك المعركة عاد إردوغان ودخل سوريا في التاريخ نفسه وبضوء أخضر روسي في 24 أغسطس/آب 2016 وسيطر على غرب الفرات، وهو اليوم يستمر في مسعاه للانتشار شرقه.
ويستمر حديث عدد من الأوساط عن مشاريع ومخططات يسعى إردوغان عبرها للبقاء في هذه المناطق من خلال التنسيق والتعاون مع كل الفصائل والمجموعات والقوى الإسلامية السياسية منها والمسلحة، والتي يبدو واضحاً أنه لن يتخلى عنها أبداً طالما أنه ملتزم بنهجه العقائدي الإخواني، متجاهلاً أن هذا النهج قد تعرض لانتكاسة خطيرة في معقله الرئيس بمصر بعد انقلاب عبد الفتاح السيسي على محمد مرسي بدعم من السعودية والإمارات، وإعلانه جماعة “الإخوان المسلمين” تنظيماً إرهابياً، الأمر الذي أحرج إردوغان في علاقاته الدولية.
هذا الأمر لم يثن إردوغان عن التخلي عن مشروعه لزعامة الإسلام السياسي بشقيه العربي والعالمي، مصطدماً بالسعودية التي كانت الراعي الرئيسي لمثل هذا الإسلام بكل اتجاهاته وميوله، بما في ذلك حركة الإخوان المسلمين التي ترى الآن في إردوغان الزعيم السياسي وحتى الروحاني الداعم الأساسي لها.
فقد احتضنت تركيا خلال السنوات الأخيرة عشرات الآلاف من قيادات ومسؤولي وعناصر وأتباع الإخوان من جميع الدول العربية والإسلامية، وهي تحتضن عدداً كبيراً من الإعلاميين الإخوان الذين يعملون في الإذاعات والتلفزيونات والمواقع الإخبارية الإخوانية التي تبث من إسطنبول. هذا إذا تجاهلنا الفعاليات والمؤتمرات واللقاءات الإسلامية المتتالية بعناوين مختلفة، والتي يسعى من خلالها حزب “العدالة والتنمية” إلى تسويق أفكاره ضد السعودية المدعومة من مصر والإمارات.
لم يحل ذلك دون أن يهمل إردوغان الداخل التركي الذي يسعى إلى أسلمته دولة وأمة، الأمر الذي نجح فيه نسبياً بعد أن سيطر على جميع مؤسسات وأجهزة ومرافق الدولة وأهمها المؤسسة العسكرية “العلمانية”.
فقد استغل إردوغان محاولة الانقلاب الفاشلة ضده في يوليو/تموز 2016 والتي قام بها أتباع فتح الله غولان للتخلص من جميع معارضيه ومن بينهم رفاقه القدامى في الحزب الحاكم، متجاهلاً اتهامات زعيمه الروحاني السابق أربكان له بالتحالف مع أميركا و”إسرائيل” والصهيونية العالمية.
وجاءت سيطرة إردوغان على أجهزة الأمن والمخابرات والجامعات والقضاء والإعلام وعلى نحو 100 ألف جامع لتساعده على تطبيق مشاريعه الداخلية، فأطلق العنان لعدد كبير من الزوايا والتكايا والمشايخ الذين يحظون بدعم من الدولة، التي سعت من خلالهم إلى التخلص من إرث أتاتورك العلماني.
وأثبتت فعاليات 10 نوفمبر/تشرين الثاني أن هذا الإرث ما زال قوياً وحياً. في هذا اليوم خرج مئات الآلاف من الأتراك إلى الشوارع، وربما للمرة الأولى بهذه الكثافة والمشاعر العاطفية، من أجل إحياء ذكرى وفاة أتاتورك.
أراد الشعب من خلال ذلك أن يقول لإردوغان إنه لن يسمح له بتمرير مخططاته للتخلص من فكر أتاتورك الذي كان وراء الانتصار الكبير لمرشحي المعارضة في الانتخابات البلدية في مارس/آذار الماضي، حيث هُزم إردوغان في العاصمة السياسية أنقرة، وفي العاصمة المعنوية تاريخياً ودينياً إسطنبول.
وبات واضحاً أن رئيس بلديتها أكرم إمام أوغلو العلماني سيبقى شبحاً يزعج إردوغان بعد فشله الذريع في السياستين الداخلية والخارجية، والسبب في ذلك هو إسلامه السياسي الذي اصطدم بعلمانية أتاتورك التي جعلت من تركيا وشعبها يختلفان كثيراً عن الدول والشعوب العربية في الكثير من المجالات، في مقدمتها الدين الذي لم يعد حتى قاسماً مشتركاً بين الدول العربية والإسلامية لأسباب عديدة أهمها أن الكل يقول “إن ديني هو الأصح!”، وهذا ما فعلته داعش بدورها فاختلفت مع جبهة النصرة كما اختلف الإمام فتح الله جولان الموجود في أميركا مع خريج ثانوية الإمام والخطابة إردوغان الذي عقد آمالاً كبيرة على لقائه مع الرئيس ترامب صديق الرئيس السيسي الذي أنهى حكم الإخوان المسلمين والمدعوم من خادم الحرمين الشريفين الذي لا ينسى كيف ألقى العثمانيون القبض على عبد الله آل سعود الذي كان في زمانه متمرداً على الدولة العثمانية فاقتادوه إلى إسطنبول ليأمر السلطان محمود الثاني بضرب رأسه. لم تمنع هذه الذكريات آل سعود وملوك وأمراء الخليج من التحالف مع إردوغان خلال ما يسمى بـ “الربيع العربي” ولاسيما في سوريا. وهم الآن جميعاً، باستثناء قطر، ضد إردوغان وإسلامه العثماني التركي طالما هو يتصرف كأنه زعيم سياسي وأحياناً روحي لكل الإسلاميين في العالم، وما عليه إلا أن يتخلص من شبح أتاتورك حتى يحقق حلمه هذا!
حتى ذلك التاريخ سنرى جميعاً أي إسلام سيكتشفه الأميركيون!.