العدالة التركيَّة.. من هو القاضي الأعلى؟
حسني محلي
لا تقتصر قرارات المحاكم على معارضي الرئيس إردوغان، بل تشمل مجمل القضايا التي تمسّه بشكل غير مباشر.
في أغرب قضيَّة شهدتها تركيا، يوم الثلاثاء الماضي، حكمت المحكمة الخاصَّة في إسطنبول ببراءة كلّ المتهمين بقضية اعتصامات حديقة “غازي” في إسطنبول في العام 2013، في ما اعتبره الرئيس التركي رجب طيب إردوغان آنذاك محاولة انقلابية ضده، ولكن الأغرب في القضيّة أنَّ وكيل النيابة، وبقرار مفاجئ، اعترض فوراً على قرار المحكمة، وأمر ببقاء رجل الأعمال عثمان كافالا في السجن، بعد أن اتهمه هذه المرة بالعلاقة بمحاولة الانقلاب الفاشلة في 25 تموز/يوليو 2016.
ولا زال كافالا موجوداً في السجن منذ أكثر منذ 840 يوماً، بعد أن اعتبرته النيابة “الرأس المدبّر والمموّل للاعتصامات” الَّتي شارك فيها مئات الآلاف من المواطنين، ليس فقط في إسطنبول، بل في العديد من المدن الأخرى، وهو ما أخاف الرئيس إردوغان، بعد أن شبّه البعض الاعتصامات والمسيرات بتظاهرات “الربيع العربي”.
أما الأغرب في القضية، فهو هجوم الرئيس إردوغان في اليوم التالي على قرار المحكمة، متهماً كافالا بأنَّه “مدعوم من القوى المظلمة من أمثال سوروس”. وجاء الردّ سريعاً من المعارضة التي وزّعت صوراً لإردوغان مع الملياردير الأميركي اليهودي جورج سوروس، عندما التقى به في إحدى زياراته لأميركا منذ 17 عاماً.
واعتبرت أوساط أخرى موقف الرئيس إردوغان ردَّ فعلٍ على تصريحات الرئيس السابق عبد الله غول يوم محاكمة كافالا، حين قال: “إنني فخور باعتصامات غازي”، وهو ما اعتبره البعض إعلان الحرب رسمياً من غول ضد الرئيس إردوغان، بعد أن اعترف بشكل غير مباشر بأنَّه يدعم وزير الاقتصاد السابق علي باباجان، الّذي سيعلن عن حزبه الجديد الأسبوع القادم.
وكان قرار المجلس الأعلى للقضاء الأغرب من كلّ الغرائب، إذ أحال أعضاء المحكمة التي برأت كافالا إلى التحقيق العاجل، وهو ما سيعني إحالتهم إلى التقاعد أو وضعهم في السجن.
وأثارت هذه التطوّرات، كسابقاتها، نقاشاً واسعاً في الأوساط السياسية والإعلامية والحقوقية التي تتهم إردوغان بالسيطرة على الجهاز القضائي بأكمله بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 تموز/يوليو 2016، وتغيير النظام السياسي في نيسان/أبريل 2017 من برلماني إلى رئاسي، ليصبح الحاكم المطلق للبلاد.
واستغلّ إردوغان حادث الانقلاب الفاشل، فطرد نصف القضاة ووكلاء النيابة (حوالى 5 آلاف) ونسباً متساوية من أعضاء المحاكم العليا من وظائفهم، ووضع البعض منهم في السجون بتهمة التواطؤ مع الداعية فتح الله غولن، الّذي قال عنه إنه المسؤول عن الانقلاب الفاشل، وهو مقيم في أميركا منذ 22 عاماً.
وشهد الجهاز القضائي بعد ذلك التاريخ، حاله حال الأجهزة الباقية، تطورات مثيرة، إذ اتّهمت المعارضة الرئيس إردوغان بتعيين أتباعه وأنصاره في جميع الأجهزة الحكوميَّة، وأهمها الجيش والمخابرات والأمن، وأخيراً القضاء، لتصدر المحاكم أحكامها وفق مزاجه.
والدليل على ذلك أنّ هذه المحاكم أمرت في 4 تشرين الثاني/نوفمبر بإلقاء القبض على الرئيسين المشتركين لحزب الشعوب الديمقراطي فيكان يوكساكداغ وصلاح الدين دميرطاش واعتقالهما، بعد رفع الحصانه عنهما، بتهمة العلاقة مع حزب العمال الكردستاني المحظور.
وكان دميرطاش ويوكساكداغ أعضاء في البرلمان، حالهم حال 7 آخرين من قيادات الحزب المعتقلين، يضاف إليهم العديد من رؤساء البلديات المنتخبين الذين استهدفهم إردوغان جميعاً في العديد من خطاباته، وهو ما يجعل الإفراج عنهم أمراً صعباً لن يجرؤ عليه أيّ قاضٍ، لأنه يعرف أنّ المجلس الأعلى للقضاء الذي يترأسه وزير العدل سيقوم بمعاقبته.
كانت هذه الحالات كافية بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي، بمؤسَّساته المختلفة، ليتخذ العديد من القرارات ضد تركيا، وكان آخرها قرار محكمة حقوق الإنسان الأوروبية، التي أمرت في 12 كانون الأول/ديسمبر الماضي بإخلاء سبيل كافالا، وهو ما لم تلتزم به أنقرة، على الرغم من قرارات المحكمة الملزمة التي سبق لتركيا أن تجاهلتها في قضايا أخرى.
هذا الأمر دفع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إلى التصرف بشكل شخصي، فاتصلت بالرئيس إردوغان في 14 شباط/فبراير 2018، وطلبت منه إخلاء سبيل الصحافي التركي/الألماني دانيز يوجال، الذي قال عنه إردوغان سابقاً “إنه لن يخرح من السجن ما دام في السلطة، واتهمه بالتجسّس والإرهاب والعمالة”.
وبعد يوم من هذا الاتصال، فوجئ الجميع بخروج يوجال من السجن ومغادرته إسطنبول على متن طائرة خاصة أرسلتها صحيفة “دي فلت”، التي كان يعمل مراسلاً لها في تركيا.
ودفع خروج يوجال من السجن باتصال هاتفي من ميركل الرئيسَ ترامب إلى انتهاج الأسلوب نفسه، ولكن هذه المرة عبر “تويتر”، وهي هوايته الخاصة، فغرّد مهدداً الرئيس إردوغان “بتدميره وتدمير اقتصاد تركيا إذا لم يخلِ سبيل الراهب برونسون”، المتهم بالتجسس والعمالة والإرهاب، حاله حال يوجال المتهم بالعلاقة مع حزب العمال الكردستاني، وبرونسون المتهم بالعلاقة مع الداعية فتح الله غولن.
ولم يكتفِ ترامب بتغريدته، فاتّصل بالرئيس إردوغان هاتفياً، ولكن لا يعلم أحد فحوى الحديث الذي دار بينهما. وبعد يوم من الاتصال، قررت المحكمة فجأةً إخلاء سبيل برونسون في 12 تشرين الأول/أكتوبر 2016، ليعود إلى واشنطن ويلتقي ترامب في البيت الأبيض ويقدّسه!
ولم تقتصر المفاجآت على هذه “النماذج الاستثنائية”، فقد اتهمت أحزاب المعارضة المحاكم بالولاء التام والمطلق للرئيس إردوغان. وقال عنه زعيم حزب الشعب الجمهوري، كمال كليجدار أوغلو، أكثر من مرة، إنّه يصدر تعليماته المباشرة للمحاكم حتى تتخذ قراراتها “المناسبة” ضد كلّ من يعارضه.
ومن بين القرارات الصادرة تلك التي تستهدف كليجدار أوغلو مباشرةً، وعدداً كبيراً من السياسيين والمثقفين ورجال الأعمال والصحافيين، فقد وضعت المحاكم أكثر من 150 منهم في السجون، ومنهم أنا شخصياً، إذ حكمت المحاكم عليَّ بالسجن أكثر من 5 سنوات، لأنني قلت “إنَّ تركيا تتدخَّل في سوريا وتدعم المسلحين، وهي مسؤولة عن الوضع هناك”، ما اعتبرته المحكمة “إساءة إلى الرئيس إردوغان والحكومة والأمة والدولة التركية”، وهي التّهم التي لا مفرّ منها بالنسبة إلى كلّ معارض، كما هو الحال في الآية الكريمة: {كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون}.
وقد زاد عدد الشكاوى التي تقدم بها محامو الرئيس إردوغان ضد الَّذين “أساؤوا إلى الرئيس” عبر كتاباتهم أو أحاديثهم، على 20 ألف شكوى، مقابل 850 شكوى فقط في عهد الرئيس السابق عبد الله غول.
ولا تقتصر قرارات المحاكم على معارضي الرئيس إردوغان، بل تشمل مجمل القضايا التي تمسّه بشكل غير مباشر، فقد تحدّثت المعارضة بالأمثلة، ولا زالت، عن أحكام تصدرها المحاكم لصالح أتباعه وأنصاره، أياً كان مضمون القضيّة، وخصوصاً إذا كانت تتعلَّق بقضايا الفساد الَّتي تمسّه بشكل غير مباشر.
وكان مجمل هذه المعطيات كافياً بالنسبة إلى المعارضة التي فقدت أملها في استقلاليَّة القضاء، الَّتي مشى من أجلها زعيم حزب الشعب الجمهوري، كمال كليجدار أوغلو، على قدميه (14 حزيران/يونيو – 9 تموز/يوليو 2017) مسافة 430 كم من أنقرة إلى إسطنبول، وانضمَّ إليه عشرات الآلاف من المواطنين على طول الطريق، من دون أن يؤثّر ذلك في قرارات المحاكم التي أخلت سبيل الأشخاص نفسهم الذين اعتدوا على كليجدار أوغلو، وحاولوا إحراق المنزل الّذي كان فيه في إحدى ضواحي أنقرة (نيسان/أبريل 2019).
وتضع كلّ هذه الاتهامات الواقع السياسي التركي في مأزق جدّي، بعد أن أثبتت الاستطلاعات أن المواطن لم يعد يثق باستقلالية القضاء. ومن دون هذه الاستقلالية، تشكّك الأوساط الغربية والعالمية بديموقراطية النظام التركي ونزاهته، بما في ذلك التزوير في العملية الانتخابية.
وترشّح كلّ هذه المعطيات تركيا إلى مزيد من المشاكل الصّعبة والمعقّدة على الصّعيد الداخليّ، وهو ما سيدفعها إلى مغامرات جديدة في الخارج، من مثل سوريا وليبيا، ما دام الرئيس إردوغان وحده الَّذي يقرر مصير هذا البلد الكبير والمهمّ بمن فيه، وهو الأدرى برعيّته الذين لا حول لهم ولا قوة أمام قرارات المحاكم والقاضي الأكبر!