Featuredمقالات مختارة

فهو الخصم لا الحَكَمُ… بقلم د.بثينة شعبان

لقد حاول إردوغان طيلة هذه السنوات أن يلعب لعبة الحكم والخصم في آن واحد، واليوم يتبين للجميع أنه خصم لدود للجميع.

قد يكون عصرنا الراهن الذي نمرّ فيه اليوم هو الأكثر سطحية وسرعة وفوضى في تداول المعلومة وعدم التدقيق بمنشئها وموجباتها ومنتهاها، وقد ساهمت التقنيات الجديدة في هذه السرعة والسطحية، إذ كان من المفترض أن وسائل التقانة الحديثة توفر وقتاً في البحث والسعي بحيث نشعر بارتقاء الجودة وغزارة الإنتاج، ولكن ما حدث هو العكس تماماً؛ فكلما ازدادت وسائل توفير الوقت كما يدّعون، رأينا الوقت يتبخّر بسرعة قياسية، وشهدنا تردّياً في نوعية المنتج، وخاصة في المجالين الفكري والسياسي والأخلاقي.

لا شك أنني لا أتحدث هنا عن الصناعة أو الزراعة أو الاقتصاد، ولكنني أتحدث عن المشهد السياسي والإعلامي والفكري، الذي نعيشه بخصوص مختلف المسائل الإقليمية والدولية؛ إذ حالما يطلَق تصريح ما في مكان ما ولغاية ما ينتشر كالنار في الهشيم بغضّ النظر عن صدقيته وعلاقته بالواقع المعيش.

وتمثّل الحرب الإرهابية التي شُنّت على سوريا حالة جديرة بالدراسة واستخلاص العبر للأجيال المقبلة في هذا المجال بالذات؛ إذ بدأت كمرحلة من “الربيع العربي”، الذي يمثّل أيضاً حالة تاريخية جديرة جداً بالمراجعة وفهم الأسباب والدوافع والطرق التي أنتجت هذه الحالة، والتي أوصلت الشعوب إلى عكس المقاصد المعلنة منها.

فالحرب على سوريا اتّخذت في البداية أشكال تظاهرات ومطالب بتغيير قوانين ومواد في الدستور، وخرجت التظاهرات واستحدثت الفوضى في الشارع، وأدّى الإعلام الغربي والخليجي تحديداً دوراً أساسياً في إثارة الشغب وتشويه الحقائق واختلاق الصور من مناسبات أخرى، وإلصاقها بما سمّوه “حراكاً”، وحُرّكت الجامعة العربية ومجلس الأمن كي تواكب قراراتهما الخطوات المرسومة والمنفّذة على الأرض وفي مناطق مختلفة من البلاد.

وركّز هؤلاء منذ البداية على تشجيع الهجرة عبر تركيا لخلق حالة إنسانية اسمها “اللاجئون”، كما ركّز الإرهابيون من إخوان الشياطين المدرّبين والمسلحين على يد الاستخبارات التركية على احتلال المعابر مع تركيا، وبذلك فتحوا مئات الكيلومترات من الحدود معها لتهريب الأسلحة إلى الإرهابيين، بحيث أصبحت تركيا المصدر الأساسي لاستقدام السلاح والإرهابيين من كل أنحاء العالم، وإيصالهم إلى مختلف المناطق في سوريا، وتزويدهم بالمال والسلاح والإعلام والدعم السياسي.

وأكد خبراء أتراك في حينه أن الإرهابيين من منظمات مختلفة لهم مكاتب شبه علنية في إسطنبول وغازي عنتاب، وأن الطائرات تقلّهم من كلّ جهات الأرض إلى تركيا، ومنها يعبرون إلى كل أنحاء سوريا. وطبعاً على المستويين الإعلامي والسياسي كانت تركيا الملاذ الآمن لكلّ من أراد التواطؤ ضد سوريا وتغذية عمليات النهب والتخريب والدمار التي نفذها الإرهابيون من الخونة والمرتزقة المتأسلمين ضد السوريين ومعاملهم ومؤسساتهم ومصادر رزقهم وفي كلّ انحاء البلاد.

وخلال هذا الزمن ومنذ اللحظة الأولى كان إردوغان هو العقل الإجرامي المدبّر لتفكيك المعامل في حلب ونقلها إلى تركيا، ونهب الثروات من الآثار السورية وتجريفها وبيعها للعالم وسرقة النفط السوري واستهداف حلب العاصمة الصناعية لسوريا، ونهب منشآتها وأيضاً إجبار السوريين على الهجرة قسراً إلى تركيا، وخاصة الحرفيين والمهنيين والمهندسين والأطباء لنقل المهن التاريخية التي يتقنها أبناء سوريا إلى الأراضي التركية.

وأدّى إردوغان خلال السنوات الأولى من الحرب دور الذي زار المنزل واطّلع على محتوياته وامتلأت نفسه حسداً وغيظاً استعداداً لسرقته بأي طريقة من الطرق. ومنذ ذلك التاريخ وهدف كل خطواته ومراوغاته وأكاذيبه وتصريحاته هو الطمع المستميت في الأرضين السورية والعراقية على وجه الخصوص، ودغدغة الحلم العثماني له الذي لم يفارقه يوماً، متخذاً من ثنائية العثمنة وتبعية الإخوان المسلمين المذلّة لأطماعه العنصرية حلماً يراوده على مستوى المنطقة والعالم، ومن هذا المنظور يمكننا أن نعيد قراءة كلّ لقاءاته في أستانة وسوتشي، وكلّ اتفاقاته التي وقّعها هو أو ممثلوه على أنها محاولات لإيهام العالم بأنه يؤمن بسيادة الجمهورية العربية السورية على أراضيها، وينقضّ ليقضم ما يستطيع قضمه من هذه الأرض بذريعة أو بأخرى، ولكنّ الحقيقة الساكنة في عقله الملوّث بالعنصرية التركية هي احتلال الأراضي العربية واستعادة الاحتلال التركي لها.

ومنذ اليوم الأول في هذه اللقاءات لم تقبل وفود الجمهورية العربية التعاطي أبداً مع العثمانيين الجدد باعتبارهم قوة احتلال أجنبية على أرضنا، وحاولت روسيا جاهدة دفعه لتطبيق اتفاق سوتشي، الذي يجب بموجبه أن يفرّق إردوغان بين الإرهابيين وما سماه المعارضة المعتدلة، ويجب فتح الطريقين M4 و M5 وتنفيذ بنود أخرى لتحرير الأراضي السورية من الإرهابيين، إلا انه كان يراوغ ويخادع، لأن حقيقة الأمر أن هؤلاء الإرهابيين هم أدواته منذ اليوم الأول، وحين تعرضوا للهزيمة النكراء على يد الجيش العربي السوري زجّ إردوغان بقواته ومعداته في المعركة التي هي معركته منذ اليوم الأول، ولكن بأدوات وغطاء من الخونة والمرتزقة والأجانب.

الجوهري في الموضوع هو أن مخطط إردوغان لا يتوقف هنا أبداً، فهو يتحدث عن إدلب كأنها ملك له ولإمبراطورتيه، ويهدد من يحرّرها من الإرهاب، ويتناغم معه بومبيو وبعض أعضاء الناتو ولو على مستوى التصريحات. الخطير في الموضوع هو أن إردوغان يخطط لتتريك الوطن العربي برمّته وأخونة أوروبا وآسيا ليصبح السلطان على إمبراطورية تركية مترامية الأطراف كما كان يطمح هتلر وغيره من الطغاة.

ومن هنا يأتي قرار الرئيس الفرنسي ماكرون ألا يسمح بأن تكون فرنسا مجالاً لتطبيق القوانين التركية أو الإمامة في الجوامع لمن لا يتقن الفرنسية قراءة صحيحة لخطط إردوغان، الذي خصص ميزانيات هائلة لنشر فكر الإخوان المسلمين المعادي للقيم الوطنية والقومية في أوروبا وآسيا، وقد يكون كلام ماكرون هو الصحوة الأوروبية الأولى لخبث مخططات إردوغان وخطرها على المنطقة وأوروبا والعالم. وقد كان تصريح الجولاني النقطة الأخيرة التي أثبتت ومن دون أدنى شك أن إردوغان والإرهاب طرف واحد، وأن الإرهاب هو أداته الأساسية لتحقيق أهدافه التي كانت مستترة، والتي أصبحت اليوم واضحة للعيان.

لقد كشفت معارك الجيش العربي السوري وتحرير حلب حقيقة إردوغان للعالم. فمع أن الناتو وبعض دوله يقدّمون إليه بعض الوعود للمساعدة، إلا أنه لم يعد قادراً أبداً على لعب أوراق الكذب التي لعبها على مدى سنوات ليحاول كسب روسيا وأميركا وأوروبا، وإيهام الجميع بقوته وقدرته على تحريك المشهد.

إن أول انتصار لإدلب اليوم وحتى قبل تحريرها من دنس إردوغان وإرهابه هو أنها ساهمت في تعرية حقيقته للعالم، وبما أن الكذب كان إحدى أدواته الأساسية؛ فإن انكشاف أكاذيبه لكلّ اللاعبين سيساهم على نحو كبير في إضعافه وإسقاطه من المعادلة في المستقبل القريب.

لقد عمل على إيهام العالم بأنه السد الذي يمنع تدفق اللاجئين إلى أوروبا، واليوم تكتشف أوروبا أنه هو السبب الأساس وراء موجات اللاجئين، وأنه يستخدمهم للابتزاز السياسي، وحاول إيهام الولايات المتحدة ودول الناتو بعلاقته الراسخة مع روسيا، واليوم يكتشف الناتو أن روسيا كشفت كذبه وادعاءاته ونكوصه عن تنفيذ الاتفاقات الموقعة من قبله، وحاول إيهام روسيا بأنه عضو أساسي في الناتو، وبأنه مكسب كبير لها وعليها الحفاظ عليه، واليوم تكتشف روسيا أن أحداً في الناتو لن يقدم على تقديم الدعم الميداني له، بل هم يطلقون التصريحات فقط، التي لا تكلفهم شيئاً سوى الحبر الذي كتبت به، وتصريح المتحدث باسم البنتاغون جوناثان هوفمان لا يحتاج إلى تعليق، فقد قال “نحن نشهد كيف تقترب روسيا وتركيا من نزاع أكبر حجماً في المنطقة. نأمل أن يجد البلدان سبيلاً لتفادي ذلك”.

لقد حاول إردوغان طيلة هذه السنوات أن يلعب لعبة الحكم والخصم في آن واحد، واليوم يتبين للجميع أنه خصم لدود للجميع، وأنه ليس حكماً لأحد وهذا يمثّل الإنذار الأكيد بقرب نهاية دور إردوغان وإراحة المنطقة والعالم من مخططاته الشيطانية التي يرسمها له غروره ووهمه بأنه أذكى من الجميع، فقط ليكتشف قريباً أنه سيكون ضحية هذا الغرور بينما يسجل التاريخ حالة أخرى عابرة دفع صاحبها الثمن كلّه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى