Featuredمقالات مختارة

عن الوجه الإيجابي للمظاهرات اللبنانيّة..

 
سجى مرتضى

روحيّة الوطن والشعب الواحد برزت منذ اليوم الأوّل للمظاهرات، لتعطي صورة أنقى عن الشارع اللبناني الموسوم بحرب أهلية مأساوية دامت أكثر من 15 عاماً.

أثبت جيل الشباب اللبناني، خاصة الذي أطلق شرارة المظاهرات العفوية في أيامها الأولى، أنّه قادر على أن يقف يداً واحدة

يعيش الشارع اللبناني الكثير من الاضطرابات، مع المظاهرات التي انطلقت منذ 17 تشرين الأوّل/أكتوبر الماضي وتأزم الوضع الاقتصادي الذي أرهق كاهل الطبقتين الفقيرة والمتوسطة. الآلاف افترشوا الشوارع والساحات احتجاجاً على فساد الطبقة الحاكمة وفشلها في حلّ الأزمات الاجتماعية والاقتصادية المتفاقمة منذ التسعينيات.

اشتباكات بين القوى الأمنية والمتظاهرين، حوادث قتل وإغلاق للطرقات وغيرها الكثير من التوترات التي كسر حدتها العديد من المبادرات الإنسانية الصادقة. تضامن كبير وطيبة ملفتة أثبتها الكثير من المتظاهرين، روحيّة الوطن والشعب الواحد برزت منذ اليوم الأوّل للمظاهرات، لتعطي صورة أنقى عن الشارع اللبناني الموسوم بحرب أهلية مأساوية دامت أكثر من 15 عاماً.

لنساعد بعضنا ونحدّ من الفوضى..

يعاني قطاع الصحة في لبنان الكثير من الأزمات، ويفتقر العديد من المواطنين إلى الضمان الصحي. واقع يعرفه المتظاهرون جيداً، فكم من لبنانيّ مات على باب مستشفى رفضت استقباله؟ وكم من مريض أُطلقت لأجله حملات للتبرع بمبالغ مالية ضخمة لينقذه شعبه من مرض عجزت الدولة عن إنقاذه منه.

يوم 5 تشرين الثاني/نوفمبر، وفي زخم المظاهرات في مدينة صيدا جنوب لبنان، أخبرت امرأة عدداً من المتظاهرين أن المستشفيات ترفض معالجة ابنها المريض لأنها لا تملك المال الكافي، فما كان منهم إلا أنّ رافقوها مع ابنها إلى إحدى مستشفيات صيدا، وأجبروا المستشفى على استقباله وعلاجه.

خبرٌ خلق حالة من النوستالجيا لدى روّاد مواقع التواصل الاجتماعي، الذين تناقلوه بكثافة مشددين على أنهم لن يسمحوا بأن يموت أحد على باب مستشفى في لبنان بعد اليوم، وأنّ الحق الذي تعجز الدولة عن منحه لناسها، سيمنحه اللبنانيون لبعضهم البعض مهما كانت التكلفة.

تحت المبدأ نفسه، تأسست “خيمة الإسعافات” في ساحة الشهداء وسط العاصمة. مجموعة من الأطباء والمسعفين وتلامذة الطب توافدوا إلى الساحات لمساعدة المتظاهرين في حال الإصابات، لتشيّد سريعاً خيمة دائمة للإسعافات، مستعدة للمساعدة في حالات الطوارئ.

تؤكد زينة شملي إحدى المسعفات المؤسِسات للخيمة، أنّ المشروع انطلق من مبادرات فردية لشباب وشابات من مختلف الطوائف والمناطق والانتماءات، حتى أصبحوا أكثر من 100 متطوّع يتلقون التبرعات الطبية، لتتحوّل الخيمة إلى “غرفة طوارئ صغيرة”.

وتشير شملي في حديث مع الميادين نت، إلى أنّها قررت الدعم بأسلوبها لأنّها “مع الحراك، وتريد المساعدة بطريقة تساهم بنجاح مطالبه وتحدّ من الفوضى”، مشددةً على أنّه “إذا قدّم كل متظاهر شيئاً للحراك استناداً إلى اختصاصه، يساعد في جعله حضارياً أكثر”.

شملي روت للميادين نت، عن حالة التعاون التي يعمل بها المتطوعون. تقول “هذه المرة الأولى التي أعمل فيها مع فريق لا نعرف فيه بعضنا البعض، ولكننا نعمل يداً بيد”.

وفي مبادرة إنسانيّة أخرى، شكلت مجموعة من المحامين والمحاميات لجنة للدفاع عن المتظاهرين، مقدمين استشارات قانونية ومتابعات قضائية مجانية لكل من يتعرض للاعتقال أو الضرب أو يطرد من عمله بسبب مشاركته في المظاهرات.

“يا سنا نحن معاكِ للموت”

“يا سنا نحنا معاكي للموت”، شعار تردد صداه أمام مطعم Paul في منطقة الجميزة في بيروت يوم 10 تشرين الثاني/ نوفمبر. المطعم الذي قرر تخفيض مرتبات موظفيه بنسبة 40% بسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة، اعترضت إحدى موظفاته سنا مازح، لترفع لافتة أمامه كتب عليها “قاطعوا Paul، خصموا لنا 40% من معاشاتنا”.

تناقل رواد مواقع التواصل صورة اعتصام سنا بكثافة، ودعوا إلى مساعدتها لتحقيق مطلبها، فما كان من مجموعة من المتظاهرين إلا أن توجهوا إلى المطعم وتظاهروا أمامه مطالبين بإعادة رواتب الموظفين إلى سابق عهدها. استجاب المطعم لضغوط المتظاهرين، واستعادت سنا وزملاؤها رواتبهم.

واعتبرت سنا في حديث مع الميادين نت، أنّ ما قام به المتظاهرون “مبادرة جميلة ومهمة جداً”، خاصةً أنّ العديد من زملائها في العمل رفضوا مساندتها في مطالبها خوفاً من خسارة وظيفتهم.

بالروحيّة نفسها، دعا الناشطون على السوشال ميديا لأيام، الناس إلى عدم التعرض لموظفي المصارف اللبنانية بسبب الأزمة الاقتصادية وأزمة الدولار التي يمرّ بها لبنان، باعتبار أنّهم مواطنون يعانون من المشاكل نفسها وأنهم لا يتحملّون مسؤولية ما يعاني منه القطاع المصرفي.

وسط بيروت يحتضن الفقراء..

شكلت المظاهرات التي يشهدها وسط بيروت فرصة كبيرة للمتظاهرين لمساعدة الفقراء والمحتاجين، لذلك وضعوا صناديق لتبرعات الملابس في الساحات. “عايز ثياب؟ خود.. عندك ثياب؟ تبرّع” و”حبوا بعض”، عبارات كتبت على الصناديق لتشجيع المتظاهرين على التبرع، وللتأكيد على أنّ الثورة ضد الظلم تبدأ من داخل كل إنسان.

بالإضافة إلى ذلك، قام بعض الناشطين بتنظيم “مطبخ ببلاش” في ساحة رياض الصلح، لإطعام المتظاهرين والفقراء أطباقاً لبنانيةً يقومون بطهيها يومياً. كما تقدم بعض الخيم خدمة قراءة الكتب التي قام بجمعها المتظاهرون أو استعارتها، مشددين على أنّ “المعرفة أساس التغيير”.

كما تعاون المتظاهرون على تنظيف الساحات وفرز النفايات بعد انتهاء كل تحرّك مطلبي، حفاظاً على بيئة مناطقهم. منظمة Greenpeace أشارت في تغريدة لها إلى أنّه منذ بداية الاحتجاجات “تمّ إعادة تدوير كمية نفايات تضاهي الكميّة التي تمّ إعادة تدويرها في تاريخ لبنان”.

ولأنّ المظاهرات في لبنان ليست سياسية أو اقتصادية فقط، رُفعت خلالها لشعارات تطالب برفع الظلم في العديد من القضايا خاصة الاجتماعية منها. الكثيرون طالبوا بمنح المرأة حقوقها كاملة، وبحماية الأطفال المتسولّين وتغيير الخطاب العنصري تجاه اللاجئين، أمّا المتظاهرة سحر مشموشي، فطالبت بـ”حماية حقها بالعمل كمحجبة دون تمييز”.

رفعت فرح في إحدى المظاهرات لافتة كتبت عليها “دعونا نتكلم حول ما في رأسي، وليس ما على رأسي”. انطلاقاً من تجربة شخصية عاشتها، حيث حُرمت من فرصة عمل بسبب الحجاب، قررت فرح أن تثور ضد العنصرية تجاه المحجبة، وضد كل قانون يمنع اللبنانيات من ممارسة حقوقهن السياسية والاقتصادية والاجتماعية، خاصةً حرمان المرأة المحجبة من دخول السلك القضائي.

اعتبرت فرح في حديثها مع الميادين نت، أنّ المحجبات “يتعرضن للإجحاف كثيراً، ولذلك رفعت اللافتة تضامناً مع كل محجبة في لبنان من المفترض أن يُمَثّل صوتها في المؤسسات العامة والخاصة”. وأضافت: “الحراك هو دفاع عن كل حق، وكل مظلوم يجب أن يدافع عن قضيته”.

في قضية مشابهة، طالب أحد الأطفال المصابين بالتوحد في لبنان في مظاهرة، بحقه في “جلسات علاجية مجانية، ومدارس دامجة محترمة مجانية لجميع الحالات الخاصة”.

ولم ينسى العديد من المتظاهرين في بيروت وطرابلس القضية الفلسطينية، فهتفوا لغزة، وأضاءوا لأجلها الشموع، وحملوا لافتات تعبّر عن تضامنهم مع المقاومة الفلسطينية خاصةً خلال العدوان الإسرائيلي الأخير على القطاع.

بروحيّة تضامنية وبالكثير من المحبة والتآلف، أثبت جيل الشباب اللبناني، خاصة الذي أطلق شرارة المظاهرات العفوية في أيامها الأولى، والذي حفظ تاريخ الحرب الأهلية من أجداده، واختبر نتائجها دون أن يعيشها، أنّه قادر على أن يقف يداً واحدة، وأن يعبّر بتسامح عن أن للحب مكاناً كبيراً بين اللبنانيين مهما اختلفت انتماءاتهم، وأنّه قادر على النهوض ببلد لم يُشفى بعد من آثار حروبه، ليطبّق المقولة التي تُردد في كل ذكرى للحرب الأهلية: “تنذكر وما تنعاد”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى