من الإعلام المهني إلى الإعلام اللحظوي
د. عصام نعمان
شاركتُ في ندوة دعا إليها مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت موضوعها «الإعلام العربي والتطورات الإقليمية». لاحظتُ أن موضوع الندوة ركّز على لون محدّد من الإعلام هو الإعلام المتعارف عليه الذي يتوسّل في أدائه الصحيفة والإذاعة والتلفزيون ، وينهض به إعلاميون مهنيون وهواة يأخذون وقتهم في التفكير والصياغة والنشر والبث.
موضوع الندوة أغفل لوناً مغايراً من الإعلام هو الإعلام اللحظوي الذي يشارك فيه أفراد بل جمهور من مهنيين وهواة أضحى الوقت بالنسبة إليهم مجرد حالة ذهنية أو بالأحرى مورداً متاحاً يمكن أن يغرف منه المشارك ما يشاء ومتى يشاء.
إلى ذلك، لا أهمية كبيرة للمال في الإعلام اللحظوي، إذ بإمكان المشارك أن يتواصل مع جمهوره بوسائل التواصل الاجتماعي بتكلفة زهيدة للغاية، أي من دون أن يتكلّف رسماً أو بدلاً مادياً عن الوقت الذي تتطلبه الكتابة أو الإذاعة أو البث التلفزيوني.
لاحظتُ أيضاً أن أحداً من ممثلي الإعلام اللحظوي لم يدعَ إلى الندوة ما حرمنا من الإحاطة بمشاكل هذا القطاع ومرتجياته، كما من استخلاص دروس تجربته المغايرة وعِبرها.
قيل إن الإعلام يقوم غالباً بدور الداعية وليس بدور القيادة. أرى أن في هذا الحكم الكثير من التسرع والإجحاف. ذلك أن ثمة إعلاميين قياديين مؤثرين إلى جانب كونهم دعاة. محمد حسنين هيكل، مثلاً، كان إعلامياً قيادياً ولاسيما في فترة انفصال سوريا عن مصر (يوم جمعتهما الجمهورية العربية المتحدة) والفترة التي أعقبت سقوط نظام الانفصال سنة 1963 ومباشرة مباحثات بين حكام سوريا الجدد والرئيس الراحل جمال عبد الناصر لتجديد الوحدة بين القطرين.
أذكر في تلك الفترة أن هيكل ما أن كان يكتب مقالاً ويُنشر ويُذاع حتى تقوم تظاهرات في كل أنحاء سوريا بفضل صدقيته وأفكاره الوازنة وقربه من عبد الناصر. طلال سلمان كان له كهيكل، ولو بنسبة أدنى، دور قيادي في تطورات السياسة اللبنانية ولاسيما في سبعينات القرن الماضي.
ثمة قياديون مؤثرون أيضاً في الإعلام اللحظوي. من خلال متابعاتي وجدت أن لبعض القياديين في الإعلام اللحظوي دوراً مؤثراً، له جانب إيجابي حيناً وسلبي حيناً آخر. الجانب الإيجابي يتمثّل في الدعوة والتعبئة والحث على العمل من اجل نصرة القضايا الحياتية والاجتماعية كما القضايا الوطنية والسياسية. الجانب السلبي يتمثّل في إغراق الرأي العام في بحر من المعلومات والآراء والتطلعات والمواقف لدرجة تنشأ معها ظاهرة تشتت وتشتيت وحتى استحالة في تكوين رأي أو موقف جماعي موحِّد.
ظاهرة التشتت والتشتيت هذه من شأنها أن تنعكس سلباً على الديمقراطية. فالديمقراطية ليست فقط حرية التفكير والتعبير والاختيار بل هي أيضاً الحاجة والفرصة إلى تكوين أكثرية وأقلية للحكم والمعارضة. لكن وسط هذا الطوفان المعلوماتي، إن صحّ التعبير، يصبح من الصعوبة بمكان تكوين أكثرية سياسية (أو معارضة) لمدة طويلة إذ يتسبّب تدفق المعلومات والأفكار والمواقف وتبدلها بسرعة قياسية إلى استحالة بقاء أي أمر أو قرار على حاله. ألا تستدعي هذه الظاهرة البحث في صيغة أخرى للحكم أو، على الأقل، لتكوين قرار نافذ ؟
ثمة مقاربة مغايرة لمعالجة هذه المشكلة على صعيد الآداب والعلوم والفنون والقيادة تمثّلت في قيام مجموعة أكاديمية عالية الكفاءة والاستقامة في السويد تتولى سنوياً تقييم نتاج أدباء وعلماء وفنانين وقياديين وتحكم بإعطاء المتفوقين بينهم جائزة نوبل.
إذا كان ثمة نخبة من الحكماء تستطيع التقييم والاختيار في الحقول المار ذكرها وإطلاق حكم مقبول وإعطاء جائزة عالمية، فلماذا لا تكون هناك نخبة مماثلة تستطيع الأمر نفسه في حقل التمثيل السياسي ؟ أليس من الممكن، إزاء صعوبة تكوين أكثرية تحكم وأقلية تعارض بسبب الطوفان المعلوماتي وتبدّل المعطيات والآراء، التوافق على تكوين هيئة من الحكماء الأفذاذ تتولى، بعد التدقيق والتقييم، تسمية الأفضل بين الذين يترشحون لتمثيل الشعب، ما يؤدي إلى التأثير في القاعدة الشعبية الناخبة ويساعدها على حسن الاختيار الصحيح ؟ بل لماذا لا تقوم هيئة الحكماء هذه بتسمية، حتى لا أقول بتعيين الأشخاص الحاكمين على أن يبقى للشعب، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، الحق في رفض قرار هيئة الحكماء في عملية تصويت جماعي؟
ثم، أليس من الممكن والمجزي طرح هذه الفكرة على الرأي العام عبر وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها من وسائل الإعلام اللحظوي لتقدير مدى صوابيتها ؟