Featuredدراسات

مصير أمريكا على المحكْ قمة التحول الدولي في هيلسنكي

د. هشام أحمد فرارجة

يستعرض المؤرخ الامريكي بول كنيدي في كتابه الهام “صعود وهبوط القوى الكبرى”، والذي نشر عام 1987، مجموعة العوامل التي تقود الى تراجع قوة الدول العظمى في التاريخ، معتمدا على دراسة موثقة ودقيقة لظواهر تمتد عبر خمسة مائة عاما من الزمن، منذ القرن الخامس عشر وحتى نهاية القرن العشرين. وفي مراجعته لما مكّن بعض الدول من بناء قوتها، ومن ثم، ما يدفع الى أفول بعضها، كبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا وغيرها، يبيّن كنيدي أن التوسع الزائد في النفوذ يمكن أن يقود الى اختلال صارخ بين ما هو متوافر من امكانات ومصادر مع ما يتطلبه التوسع في المصالح من استمرارية في الانفاق والالتزام. ويوضح كنيدي أنه اذا ما حدث هذا الاختلال، فان النتيجة تصبح لا مفر منها، بحيث تبدأ قوة الدولة العظمى بالتراجع والاضمحلال، خاصة عندما تضطر تلك الدولة لتقليص امتداداتها السياسية والعسكرية لاسباب وذرائع اقتصادية. ويخلص كنيدي في كتابه المكون مما يزيد على 600 صفحة الى أن الولايات المتحدة ليست استثناء للقاعدة، حيث يستنتج أن عوامل عدة تتفاعل في السياسة الامريكية الداخلية والخارجية لتقود في نهاية المطاف الى تراجع الدور الامريكي القيادي التقليدي في العالم. بل يذهب كنيدي الى ما هو أبعد من ذلك ليستشرف أن الولايات المتحدة سوف تجد نفسها مضطرة للتقوقع على نفسها، كونها ستصب جلّ جهدها في الانشغال بمحاولة معالجة أزماتها الاقتصادية والداخلية. ورغم أن كنيدي يقوم بتحليل عدد من المؤشرات على تراجع قوة دولة ما، اّلا أن اثنين بالتحديد جديران بالذكر هنا. الاول يبرز عندما تتراجع القدرة الاقتصادية التنافسية لبلد ما. والثاني يظهر عندما يسود في المجتمع منطق تبريري لتراجع القوة التنافسية، بحيث تطفو على السطح أصوات يمينية محافظة، بلباس وطني مبالغ به، والتي لا تقرّ بالتراجع، بمقدار ما تحاول الترويج لمقومات العظمة المعهودة، وتنادي بالعودة لها.
وفي كتابه القيّم الشامل “دراسة في التاريخ”، المكون من اثني عشر مجلدا، والذي نشر في الاعوام 1934-1961، يتناول عالم التاريخ البريطاني الشهير، أرنولد توينبي، بالدراسة التحليلية المفصلة مقومات البيئة التي تساعد بعض الحضارات على النمو، والتطور، ومن ثم، الوصول الى مستوى القوى العظمى، وتلك المؤثرات التي تعمل على اضعاف مثل هذه القوى وتقزيم نفوذها في محيطها العالمي. ويكاد يكون أهم ما يخرج به توينبي في دراسته المتمكنة من خلاصة هو استنتاجه أن القوى العظمى لا تهزم عادة من الخارج، وانما تنهار نتيجة لتضعضع امكاناتها الداخلية. فبالنسبة لتوينبي الذي يعتمد على مراجعة دقيقة لوقائع التاريخ، فان القوى العظمى والحضارات ذات الشأن لا “تذبح” من قبل الغير، وانما تقوم هي “بالانتحار” عند تضافر مجموعة عوامل سياسية، عسكرية، واقتصادية وقيادية هدامة.
وقبل كنيدي وتوينبي، كان عالم الاجتماع والمؤرخ العربي المرموق، ابن خلدون قد سبق وقته بكثير، عندما أوضح في كتابه المعنون، تواضعا، ب”المقدمة”، والذي كتبه في القرن الرابع عشر ميلاديا، أن الحضارات والقوى الكبرى تنهار، ليس بسبب مؤثرات خارجية، وانما نتيجة لتنامي عدم التجانس بين مكوناتها الاجتماعية، والعرقية، والدينية والسياسية. وفي نظريته حول التطور الاجتماعي، يوضّح ابن خلدون العلاقة الترابطية بين عناصر المناخ والجغرافيا والهوية الوطنية، بحيث يبيّن كيف يفقد المجتمع في حضارة ما تماسكه واستقراره الداخلي عندما تُسخّر هذه العناصر لتكريس الثروة في يد مجموعة أو طبقة معينة ضيقة من الناس، دون غيرها، مما يمكن أن يقود الى اندلاع ثورات، واحتجاجات، وانشقاقات وانقسامات حادة، تؤدي في النهاية الى انهيارات مدوية.
لو قُدّر لكنيدي وتوينبي وابن خلدون أن يجتمعوا في غرفة واحدة حول طاولة مستديرة لمناقشة ما تمر به الولايات المتحدة من مراحل، خاصة جراء عقد القمة الروسية—الامريكية بين ترامب وبوتين في هيلسنكي، فينلاندا، فانهم في الغالب سيجمعون أن مصير الولايات المتحدة الامريكية، كقوة عظمى، بالفعل، على المحك. فالمراقب لا يكاد يستذكر لحظة اخرى في التاريخ الامريكي، تخيّم فيها حالة من القلق العميق في المجتمع الامريكي، بين الساسة وصناع القرار، وأعضاء النخبة وعامة الناس، على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم، ازاء ما قد تنجم عنه القمة الروسية-الامريكية من نتائج. وخلافا للعادة التي يكون فيها القلق نابعا من عدم القدرة على توقع، أو معرفة، كيف يمكن أن يتصرف أهم خصوم الولايات المتحدة أثناء لقاء من هذا القبيل على أعلى مستوى، فان دوافع الخوف ناتجة عن عدم الثقة بكيفية تعامل رئيسهم الامريكي، دونالد ترامب مع هذا الاجتماع. ولا أدل على ذلك من عمق حالة القلق هذه من حدة الجدل الصاخب الذي يدور في كافة أروقة السياسة الامريكية، في الحزبين، الجمهوري، الذي ينتمي له ترامب، والديمقراطي، وكذلك بين أوساط المستقلين، قبيل انعقاد هذه القمة. بواعث القلق تتمثل في التخوف من أن يقوم ترامب بتقديم تنازلات، أو القيام بمقايضات غير محسوبة الدوافع والعواقب، للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، على غرار ما قام بفعله أثناء قمته مع رئيس كوريا الشمالية، كيم جون أون في الشهر الماضي.
واذا ما كان هذا التخوف الواسع الانتشار في كافة أرجاء المجتمع الامريكي مبنيا على عدم اكتمال عناصر الثقة، وعلى عدم وضوح الرؤيا وتنامي مشاعر الضيق التي تسبق حدثا هاما بهذا الحجم، فان سلوك ترامب أثناء اجتماع حلف شمال الاطلسي في بروكسيل، بلجيكا قبيل لقائه ببوتين يدلّل على حدة التخبط في رؤيته السياسية فيما يرتبط بالمصالح الامريكية الوطنية، كما اعتاد الامريكيون على مقاربتها من قبل. فعرقلته لقمة الاطلسي، وتطاوله على بعض نظائره الاوروبيين، وتهديده لهم بانسحاب الولايات المتحدة من الحلف اّلا اذا ما قاموا برفع نسب التزاماتهم المالية في ميزانية الحلف ب4% بدلا من 2% من مجمل الناتج المحلي لكل منهم، الآن، وليس حتى العام 2024، لم يدع مجالا للشك بأنه يفتقر الى أبسط المهارات السياسية في لم شمل حلف عسكري تعتبر بلاده قائده الرئيسي، وتوحيده، خاصة عشية قمة مع من يعتبر أهم خصومهم منذ الحرب العالمية الثانية. فاذا ما كان القلق والتخوف هو لسان الحال داخل المجتمع الامريكي، فان التصدع، المقرون بمشاعر الاحتجاج والريبة والغضب، أصبح سيد الموقف في حلف شمال الاطلسي. فلم يرق للشركاء الاوروبيين في الاطلسي أن يتعامل معهم ترامب بتعالٍ وفوقية، بينما كان يطلق العبارات المعسولة تجاه بوتين. وكما أعرب كثيرون من المحللين والمراقبين، فان كل ما حاول الاتحاد السوفيتي سابقا، ومن ثم، جمهورية روسيا الاتحادية، فعله بقصد شق حلف الاطلسي من داخله لم يساوِ جرعة واحدة مما قام ترامب باحداثه، فقط في يومين. فضربات ترامب للاطلسي كانت مدوية، وتصريحاته وعباراته تجاه نظرائه الاوروبيين لاذعة، ووقع تفاعلاته ترك أثقل الاعباء النفسية تقع على كاهل الكثيرين من الامريكيين.
وتعبيرا عن حالة السخط الشديد في الولايات المتحدة ازاء سلوك ترامب المتخبط في اجتماعات الاطلسي، وتحديدا قبل لقائه ببوتين، أقدم نائب المدعي العام في وزارة العدل الامريكية، راد روزنستين، والذي قام باختيار وتعيين المحقق الخاص في احتمالات التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الامريكية الاخيرة لصالح ترامب، وضد كلينتون، روبرت مولر، بالاعلان عن تقديم المحقق الخاص لائحة اتهام رسمية ضد اثني عشر ضابطا في المخابرات الروسية، على أرضية قيامهم باختراق أجهزة حاسوب بعض دوائر الانتخابات الامريكية، وتلك العائدة لحملة كلينتون الانتخابية. وعلى ضوء اصدار لائحة الاتهام هذه بُعيد اجتماعات الاطلسي وقبيل قمة هيلسنكي، تعالت الاصوات في الولايات المتحدة نحو ترامب منادية اياه بضرورة الغاء اجتماعه مع الرئيس بوتين، وذلك احتجاجا على ما صُوّر بالدور الروسي المنحاز لصالح ترامب، والعابث في الانتخابات الرئاسية الامريكية.
ولكن كافة المؤشرات تبيّن أن ترامب غير آبه بمثل هذه الدعوات، حيث قام البيت الابيض باصدار بيان يشدّد فيه على أن لا علاقة له بهذا التطور، ويؤكّد، حسبما جاء في البيان، على ما يقوله ترامب بعدم وجود علاقة له بأي تدخل روسي في الانتخابات الرئاسية. وما جدير ذكره هنا أن ترامب كان في عدة مناسبات سابقة قد أطرى على بوتين ووجّه له المديح والثناء، بينما أقدم على توبيخ الحلفاء وتوجيه الاهانات لهم. ذلك كان قد حدث أثناء اجتماعات قمة مجموعة الدول السبع في كندا، عشية لقائه بالزعيم الكوري الشمالي، كيم، ومرة اخرى أثناء اجتماعات الاطلسي الاخيرة. ولكن اعجاب ترامب بالرئيس بوتين تم التعبير عنه، جليا، أثناء حملته الانتخابية، مقدما له ولروسيا الثناء على قيام ويكيليكس، التي اعتُقد أمريكيا أن روسيا تقف وراءها أثناء الانتخابات، بنشر آلاف الرسائل الالكترونية العائدة لحملة كلينتون، والتي قامت الاخيرة بشطبها من على حاسوبها نظرا لما تحويه من معلومات فاضحة ومنتهكة للقانون. وعلى ضوء ما قامت ويكيليكس بنشره من معلومات، قام ترامب بدعوة روسيا، علنا، للكشف عن المزيد من المعلومات التي تفيد حملته الانتخابية، وتضر بحظوظ كلينتون بالفوز. وبملء فمه، شكّك ترامب بفاعلية حلف شمال الاطلسي، متسائلا عن فوائد هذا الحلف، ومؤكدا أنه يعتبر اجتماعه مع بوتين “الاسهل” من بين كل القادة الذين يلتقي بهم.
في هذه البيئة السياسية الشائكة المتشابكة، يأتي مؤتمر القمة بين ترامب وبوتين في هيلسنكي، ناشرا ظلاله الضبابية على ما تخبئه الايام للولايات المتحدة من مستقبل ومصير. فواضح كل الوضوح أن أهم متطلبات القوة التي تكمن في توحيد الصف الداخلي وتماسكه، من ناحية، وفي تدعيم أواصر التحالفات العسكرية التاريخية القائمة لا تقف في خدمة الولايات المتحدة في عهد ترامب، وخاصة في هذه اللحظة الحرجة التحولية من تاريخها. فتقريبا كل أصدقاء الولايات المتحدة وحلفاؤها، سوى اسرائيل وبعض الحكومات العربية، مستاؤون غاية الاستياء من أقوال ترامب وأفعاله، ومن سياساته وقراراته. وهذا الامتعاض والضيق الشديد مما يقوم به ترامب ينسحب على كوريا الجنوبية، كندا، الفلبين، استراليا، وأوروبا، بشقيها الاقتصادي، من خلال الاتحاد الاوروبي، والعسكري، من خلال حلف الاطلسي، وسواها. وحدة هذا الامتعاض تعدّت مجرد الضيق من قيام ترامب بطعن هؤلاء الاصدقاء والحلفاء في ظهورهم برفع التعرفة الجمركية على صادراتهم للولايات المتحدة، لتطال ما يربطهم من اتفاقات وتحالفات سياسية وعسكرية.
وفي ظل بيئة من هذا النوع، لم تشهد الولايات المتحدة حالة من الانقسام المجتمعي والسياسي كتلك السائدة الآن، والتي تتغلغل في كافة طيات المجتمع الامريكي ومختلف شرائحه. فالحديث عن انفصال بعض الولايات عن الدولة الفدرالية، أو تقسيمها، كولاية كليفورنيا، مثلا، لم يعد حبيس أدراج بعض المعارضين والممتعضين من السياسات العامة للولايات المتحدة، وانما أضحى جزءا من الجدل العام، بل وحتى مقترحا قانونيا للتصويت عليه في الانتخابات التشريعية النصفية القادمة.
واذا ما جمعنا ما يمكن أن تخلفه حالة السخط الداخلي، وعميق غضب معظم الحلفاء والاصدقاء، وانعكاسات مناكفات قوى متحدية، ككوريا الشمالية، مع ما يمكن أن تتركه الحرب التجارية المستعرة مع واحد من أقوى اقتصادات العالم، كما هو الحال بانسبة للصين، من آثار وتبعات، فانه عندها يصبح غير مستغرب أبدا أن اللاعب الفرح، بل والمتألق بانجازاته التراكمية على المسرح الدولي، هو الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين. وبعيدا عن الجدل الحزبي المأزوم في الولايات المتحدة حول الدور الروسي في الانتخابات الرئاسية الاخيرة، كيف لا لبوتين أن لا يُثلج صدره نتيجة لتمزق ما كانت تتمتع به منافسة بلاده الاقوى، الولايات المتحدة، من حصانة بقوتها، وصلابة مؤسساستها وتماسكها، وتراصّ أحلافها وتحالفاتها، وتراجع، بل وتعثّر قدراتها السياسية، الاقتصادية، والتجارية والاعلامية.
ورغم شحّ المعلومات عمّا يمكن تناوله في قمة بوتين-ترامب، اّلا أن قدرات بوتين المعهودة، من حنكة سياسية وقوة شخصية وتجربة رياضية كلاعب محترف للجودو والشطرنج، وما لذلك من أثر على نفسيته وانعكاساته على من يتفاعل معهم من نظراء، سوف تعطيه الافضلية في ادارة الاجتماع وبلورة ما يصبو الى تحقيقه من غايات. وبوتين يدرك أن هذه هي فرصة الفرص بالنسبة لبلاده، بأن يلتقي برئيس أمريكي مهزوز ومأزوم، سياسيا، ونرجسي الشخصية، وبدون تجربة أو خبرة في العمل الدولي الشائك المعقد. ولذلك، أيا تكون الموضوعات المدرجة على بساط البحث في هذه القمة، فان عقلية رجل الاعمال التي تطغى على شخصية ترامب يتوقع في الغالب أن تتحلّل أمام قدرات ومهارات من يمتلك الخبرة، والتجربة، بل وزمام المبادرة الفاعلة في أكثر من منطقة وأقليم في العالم. فهو ليس سرّا أن ترامب يتمحور حول فكرة ابرام الصفقات بهدف تكثيف الارباح المادية الآنية، دون الالتفات الى الآثار البعيدة المدى لما ينطق به، أو يقوم بفعله. وحتى في سياق التركيز على انجاز صفقة ما، يبدو أن ترامب عادة ما تأخذه نشوة اللحظة لاشباع غروره بالمديح والاطراء، أكثر من التركيز على النتائج الفعلية الملموسة.
يُرجّح المراقبون وأصحاب الرأي أن بعض المواضيع التي ستتصدر البحث بين الطرفين سوف تتمحور حول الوضع في سوريا بعد سبعة أعوام من الاقتتال والاحتراب، خاصة ما يتعلق منه بتواجد العناصر الايرانية وتلك التابعة لحزب الله، الاتفاق النووي مع أيران والذي قام ترامب بالاعلان عن انسحابه منه، تمدد النفوذ الروسي في أوكرانيا وفكرة ضم شبه جزيرة القرم، التدخل الروسي المفترض في الانتخابات الرئاسية الامريكية الاخيرة، العقوبات الامريكية المفروضة على روسيا، محاربة الارهاب والحد من التسلح النووي لدى كلا البلدين والحيلولة دون انتشار السلاح النووي. وما دامت عقلية ترامب تخضع لمنطق المقايضة، فانه من المحتمل أن يحاول مقايضة بوتين على رفع العقوبات الامريكية عن روسيا مقابل تنشيط الحركة التجارية بين بلديهما، بهدف الضغط على الصين واشعارها بوجود بدائل لها، وأيضا بهدف احداث شرخ في العلاقات الصينية-الروسية. بمعنى آخر، يمكن لترامب أن يحاول لعب لعبة هنري كيسنجر بشكل معكوس، بحيث يعمل على التقارب مع روسيا من أجل الضغط على مزعجه الاكبر، الصين، وبالتالي على حليفتها كوريا الشمالية، خاصة بعد أن قامت الاخيرة بادارة ظهرها لترامب، واستهتارها به بتغيبها مؤخرا عن الاجتماع المبرمج مسبقا على الخط الفاصل المنزوع من السلاح بين الكوريتين، وذلك لبحث استرجاع جثث الجنود الامريكيين القتلى في الحرب الكورية قبل سبعة عقود من الزمن. وفي ذات الوقت، يمكن لترامب أن يجرّب مقايضة بوتين على اخراج القوات الايرانية والاخرى التابعة لحزب الله من سوريا، امتثالا لمطالب وضغوط اسرائيلية، مقابل سحب القوات الامريكية من كافة القواعد التي احتلتها هناك. وقد تكون غاية ترامب القصوى الرغبة في مقايضة بوتين على اقراره بشرعية الدور الروسي في أوكرانيا والقرم بشكل عام، أو على الاقل التغاضي عن ذلك الدور، مقابل غض الروس نظرهم عما قد يقوم بفعله ترامب ضد ايران، عسكريا، دبلوماسيا واقتصاديا، أيضا تلبية للطموحات الاسرائيلية. ولا شك أن ترامب قد يحاول اغراء بوتين بتسهيل تسويق النفط والغاز الطبيعي الروسي كبديل عن النفط والغاز الطبيعي الايراني، مقابل اىتزاع موافقة روسية على تمرير المخططات الامريكية بخصوص ايران. وبقيامه بمثل هذه المحاولات، يكون ترامب قد نسي أو تناسى أن تركيبة النظام الدولي، بصعود الدور الروسي، تختلف جذريا عمّا كانت عليه الحال عندما شنّت الولايات المتحدة حربيها على العراق، أولا عام 1991، وثانيا عام 2003. وقد تتعدد احتمالات المقايضات وتتشعب أكثر في سيناريوهات اخرى، سواء ما تعلق منها بالتعاملات التجارية أو بالقضية الفلسطينية. ولكن، أيا كانت طبيعة الصفقة التي ستنجم عن قمة هيلسنكي، فانها في غالب الاحتمال سوف تتسم بالصفات العامة التالية. أولا، هناك احتمال كبير بأن تطغى على تصريحات ترامب عبارات التبجيل والمديح لنظيره الروسي، بوتين، بهدف التأكيد على قدرته على جسر الفجوات، حتى مع الخصوم، وأيضا من أجل ابراز ذاته كصانع المعجزات في العلاقات الدولية، بشكل لم يعهده الامريكيون من قبل. وفي هذا الصدد، سوف يعمل ترامب جاهدا على اعطاء الانطباع، مرة تلو الاخرى بأنه قام بتحقيق انجازات لم يحلم بها، أو يعهدها أحد من قبل. وقد تتمحور هذه الانجازات المتخيلة حول حصوله على تأكيدات قاطعة بعدم قيام روسيا بالتدخل في الانتخابات الرئاسية الامريكية الاخيرة، أو بالاتفاق على الحد من أنواع معينة من الاسلحة والصواريخ النووية، أو بوضع آليات محددة لمحاربة الارهاب. وأيا كانت الانجازات المعلنة، اّلا أنها لن تتعدَ في قيمتها الحقيقية حدود العموميات، تماما بشكل ينسجم مع شخصية ترامب وأسلوب عمله. واذا ما كانت تصريحاته بنجاحه المزعوم في قمة الاطلسي في الضغط على نظرائه الاوروبيين برفع مستوى مساهماتهم المالية في ميزانية الحلف فورا مقياسا، فان كل ما يمكن لترامب أن يدّعيه من انجازات في قمة هيلسنكي يجب أن لا يؤخذ على محمل الجد، وانما أن يخضع للتحليل، والنقد والتمحيص.
ثانيا، اعتمادا على قراءة عامة لشخصية بوتين التي تتسم بالثبات، ووضوح الرؤيا، والقدرة على تحديد الهدف المراد تحقيقه والتصويب نحوه بدقة، فان الرئيس الروسي لن يقدّم لترامب أية تنازلات على أي طبق، من ذهب كان أو من سواه. فالقضايا الجيو استراتيجية التي شغلت بوتين في السنوات الاخيرة، كسوريا، والاتفاق النووي مع ايران، وأوكرانيا والقرم، لن تخضع للمساومة والبعثرة، خاصة بعد كل الجهود والطاقات التي صبّها بوتين من أجل المحافظة على مصالح بلاده المتعلقة بهذه القضايا. وقد رشح مؤخرا ما قدمه الكرملين للسيد علي ولايتي، مستشار المرشد العام للشؤون الدولية في ايران، السيد علي خامينئي، أثناء زيارته لموسكو مؤخرا، باحترام روسيا للدور الايراني في محاربة الارهاب في سوريا ولسيادة الدولة السورية في دعوة من تشاء واستبعاد من لا تريد عن أراضيها. وأيا كان الامر، فانه من العبث بمكان أن يبحر أحد في تخيّل أن روسيا يمكن أن تزعزع ركائز القوة التي أرست قواعدها ومكنتها في سوريا بعد عدة سنوات من الحرب، بما فيها تحالفها مع ايران. ولكن بالمقابل، وانطلاقا من فهم بوتين العميق لخصائص شخصية ترامب النرجسية، فانه يمكن أن يعمل على اشباع غرور ترامب وظمأه للمديح فارغ المضمون. فبوتين، لا شك، راقب وقع تصريحات ترامب في قمة الاطلسي عندما أثنى على نفسه قائلا أنه “العبقري الاكثر استقرارا”. فبعمق خبرته وسعة تجربته، يعرف بوتين مفاتيح الاثارة في شخصية من لا يمتلك ذات القدر من الدراية والمعرفة بالشؤون الدولية. ولذلك، أقدم الكرملين عشية انعقاد قمة هيلسنكي على اصدار تصريح يكيل فيه المديح لترامب، باعتباره “شريكا”. ولا يخفى على أحد أن بوتين يدرك طبيعة المؤثر الكامن في العقل الباطن عند ترامب، والمتمثل بمساعدة روسيا له بهدف انجاحه في الانتخابات الرئاسية. بل وبوتين يعلم ما لمثل هذا المؤثر من انعكاسات على شخصية ترامب وسلوكه، وكأن بوتين يلوّح بالعصا الغليظة لترامب دون أن يشهرها. فحتى الآن، لم يتلفّظ ترامب بعبارة نابية واحدة ضد بوتين، على خلاف شخصيته المعهودة والمعروفة بتوجيه العبارات النابية، حتى لبعض من يعتبرهم أصدقاءه. ومن ناحية ترامب، فان نظرته لبوتين تتعدى كونه لم يوجه له انتقادا واحدا، الى حد أن وصفه في تصريح له بأنه ليس بالعدو، وانما بالمنافس، الذي يمكن أن يصبح صديقا. واذا ما توقف المحلل عند مدلولات مثل هذه التصريحات، فانها تشكل، وبدون منازع، اعلانا مق قبل الرئيس الامريكي عن انتهاء حالة العداء والخصومة بين القوتين العظميين. واذا ما أمعن المرء النظر فيما تنطوي عليه مثل هذه التصريحات من معاني وأبعاد، فانها يمكن أن تفسر كتسليم بقوة روسيا وقدراتها، ان لم يكن اعلانا مستترا بالاستسلام لما تحققه روسيا من انتصارات في عدد من أقاليم العالم. وعليه، فان كافة المؤشرات تبيّن أن ترامب سوف يعود من هيلسنكي خالي اليدين من أية انجازات حقيقية تذكر.
ثالثا، لن تكون “أمريكا أولا” هي مركز المحور بالنسبة لترامب أثناء اجتماعه مع بوتين، وانما “ترامب أولا”، كما يقول الباحث ونائب رئيس برنامج المبادرات الجديدة ومدير برنامج الشرق الاوسط في مركز ويدرو ويلسون للدراسات، أرون دافيد ميلر، والباحث في معهد كارنيجي للسلام الدولي، ريتشارد سكولوسكي، في مقالة لهما حديثا، تعليقا على قمة هيلسنكي. ومما يعنيه ذلك أن ترامب سوف يركز على لعب دوره المسرحي كقائد فذ، بقدرات خارقة، غير مسبوقة، حتى وان خلت كل تحركاته وتصريحاته من أية مضامين فعلية.
ورابعا، من الواضح أن قمة هيلسنكي قد تؤرخ لتحول جذري في كينونة النظام الدولي القائم، من ناحية، وفي موقع الولايات المتحدة من هذا النظام، من ناحية اخرى. فهذه القمة تأتي على أعتاب تصدع غير مسبوق، ولا معهود في أهم تحالف للولايات المتحدة من خلال اتفاقية حلف شمال الاطلسي. وهذه القمة تنعقد في ظل أجواء من الانقسام والتشقق داخل المجتمع الامريكي ومؤسساته السياسية، خاصة نتيجة للجدل المحتدم بخصوص ما قد تكون لعبته روسيا من دور في الانتخابات الرئاسية الاخيرة. وهذه القمة تنعقد بينما تحيط بالولايات المتحدة كافة أنواع التحديات الاقتصادية والتجارية، من أصدقائها ومنافسيها على حد سواء، لا سيما ما يعتمل في الاجواء من أزمات محدقة ومحققة مع الصين.
ولذلك، فان قمة هيلسنكي يمكن أن تكون قمة التحول الجذري في النظام الدولي وفي مكانة الولايات المتحدة، بجدارة. واذا ما كانت قمة يالتا بين الزعيم السوفيتي، جوزيفف ستالين والرئيس الامريكي، فرانكلين روزفيلت، عام 1945 قد رسمت خارطة عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، وزرعت بذور الحرب الباردة، واذا ما كانت قمة الرئيس الامريكي، رونالد ريغن والزعيم السوفيتي، ميخائيل غورباتشوف في ريكيفيك في أيسلاندا، عام 1986 قد أسست لانتهاء الحرب الباردة، وتفكك الاتحاد السوفيتي وتحلل منظومة الدول الاشتراكية وحلف وارسو، فان التاريخ يمكن أن يسجّل أن قمة هيلسنكي ستؤسس لأفول دور الولايات المتحدة في العالم، واضمحلال قوتها وتراجعها، ومن ثم انطوائها على نفسها وانشغالها بهمومها ومطاحناتها الداخلية المتزايدة. فقد لا يكون مستغربا أن يكون على رأس جدول أعمال ترامب بعد عودته من هيلسنكي التفكير بعزل نائب المدعي العام، وذلك عقابا له على توقيته لتوجيه تهم رسمية لضباط المخابرات الروس على تدخلهم في الانتخابات الرئاسية، بينما يعيش ترامب أهم لحظات نشوته. واذا ما أقدم ترامب على خطوة من هذا القبيل، فانه في الغالب سوف يحدث زلزالا سياسيا من حوله، حيث مشاعر الحنق تجاهه تتقاطع في أوساط الحزبين، الجمهوري والديمقراطي، بشكل لم يسبق له مثيل.
فقمة هيلسنكي التي سوف يحاول ترامب أن يصوّرها على أنها ذروة انجازاته التي لا يستطيع أحد سواه أن يقوم بها، قد تتحول الى بداية النهاية المتسارعة له ولرئاسته، ومحطة حرجة تؤرخ لهبوط الامبراطورية الامريكية وتضعضعها، ومن ثم تآكل ما لها من امتدادات وتحالفات. وبالمقابل، فان روسيا سوف تجد نفسها متحررة من القيود التي أخذت تفرضها على نفسها لفترة طويلة من الزمن بسبب استقبالها لمونديال كأس العالم الذي طالما انتظرته. فأمريكا التي ستحاصر نفسها وتقلّص نفوذها ستقابل بروسيا الاكثر صلابة واقداما في سياساتها الخارجية وفي المحافظة على مصالحها.
واذا ما كانت مثل هذه التحولات التاريخية الجذرية صادمة للعامة، رغم بطىء حدوثها أحيانا، اّلا أن أعلاما ككنيدي وتوينبي وابن خلدون سوف يجهرون بعدم استغرابهم، بل بالتذكير بأنهم رصدوا، كل بمنهجيته وفي زمانه، عوامل تقزيم القوة الامريكية في هيلسنكي، ليس نتيجة لعدوان أجنبي أو بسبب تحدٍ خارجي، وانما كنتيجة حتمية جعلها ترامب، بشكل رئيسي، أمرا لا مناص منه. واذا ما كانت بوادر عملية انهيار الامبراطورية الامريكية قد سبقت مجيء ترامب الى الحكم، اّلا أن رئاسته قد سرّعت منها وأوصدت الباب نهائيا في وجه العودة عنها.
فمن يفقد الاصدقاء، لا محالة، يحفّز الخصوم والاعداء. ومن يوسّع من نطاق جبهاته، لا مفر، يزيد من احتمالات النيل منه، وربما هزيمته. ومن يحتكم لنزعاته ونزواته الشخصية في ادارة الشأن العام، في الغالب، يعجّل من الذهاب الى التهلكة. ومن يفتقر الى الحكمة والفطنة والنظرة الثاقبة، لا يترك مجالا اّلا أن يحيط نفسه بأوهام الانتصارات وسراب الانجازات. ومن يدير ظهره لمن يسدون له النصح الخالص الامين، يحفر لنفسه ولمن حوله عميقا في المآزق والازمات.
وحتى في أحسن الاحوال بالنسبة للولايات المتحدة، لو كانت كل هذه الارهاصات عارية عن الصحة وبعيدة عن الصواب، فان ما ستخلفه خطوات ترامب في هيلسنكي من أصداء وما ستتركه من انطباعات في الذهنية والنفسية الامريكية سوف يكون لها بالغ الاثر على استقرار أمريكا الداخلي، من كافة النواحي، وأيضا على نفوذها الخارجي، على مختلف الصعد.
د. هشام أحمد فرارجة – استاذ العلوم السياسية في جامعة سانت ماري في كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأمريكية
www.hishamahmed.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى