فضيلتان مطلوبتان: المصالحة الوطنية والتهدئة بين الفصائل أولاً
د. عصام نعمان
تبدو التهدئة في غزة بين فصائل المقاومة و«إسرائيل» الشغل الشاغل لكلّ هذه الأطراف بالإضافة الى مصر بما هي المحرّك الرئيس. يقال إنّ التهدئة ممكنة من دون السلطة الفلسطينية، أيّ من دون حركة «فتح». لكن قياديّين في «فتح» يحذرون من أنّ إقرار التهدئة اليوم مقدّمة لقبول «صفقة القرن» غداً. فصائل أخرى مساندة لحركة «حماس» تحذّر أيضاً من مخاطر إقرار التهدئة قبل المصالحة الوطنية. القيادي البارز في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ماهر الطاهر يتخوّف من أن يؤدي إقرار التهدئة قبل المصالحة إلى دعم مساعي «إسرائيل» لفصل غزة عن الضفة الغربية.
كلّ هذه التحفظات لم تمنع رئيس الاستخبارات المصرية اللواء عباس كامل من زيارة تل أبيب للبحث في تفاصيل التهدئة المرتجاة، كما لم تمنع ممثلي فصائل «حماس» و«الجهاد الإسلامي» و«الشعبية» و«الديمقراطية» و«الأحرار» و«المجاهدون» و«المقاومة الشعبية» و«لجان المقاومة»، وسط غياب مقصود لـِ «فتح»، من مناقشة مسودات متعدّدة للتهدئة مع عباس كامل ومساعديه في القاهرة. في موازاة ذلك، تزداد وتيرة التحذيرات، وبعضها يصل إلى مستوى الاتهامات، بين ممثلي الفصائل المحتشدين في القاهرة وأعضاء المجلس المركزي المجتمعين برئاسة محمود عباس في رام الله. إلى ذلك، تتزايد التسريبات من مسؤولين «إسرائيليين» إلى وسائل الإعلام الصهيونية حول التوصل الى اتفاق بشأن التهدئة والمباشرة في تنفيذ بعض بنوده.
لكن سؤالاً مفتاحياً يبقى مطروحاً: أيّهما أهمّ وأوْلى بالإقرار أولاً، المصالحة الوطنية بين الفصائل الفلسطينية أم التهدئة بين معظمها، ثم مع «إسرائيل» تالياً؟
كِلا الفريقين يلوم الآخر بشأن عرقلة المصالحة الوطنية، كما أنّ فريق الفصائل الراغب في التهدئة يقدّم من الحجج والشروط ما يبرّر الإقدام على إقرار تهدئةٍ لا تعرقل المساعي المبذولة لإقرار المصالحة الوطنية.
الحقيقة أنّ ثمّة سؤالاً مركزياً كان وما زال مطروحاً، قبل البحث في التهدئة وسيبقى مطروحاً بعد إقرارها، هو: لماذا تأخّرت الفصائل، جميع الفصائل، في التوصل إلى المصالحة الوطنية المرتجاة، وهل ما يمنع مسارعتها اليوم الى إقرارها بالتوازي مع المساعي المبذولة لإقرار التهدئة؟
من الواضح أنّ محمود عباس وأنصاره في المجلس المركزي يركّزون على إحياء المطلب الرئيس وهو بناء الدولة الفلسطينية وتوسيع الاعتراف بها واعتبارهما أساساً متيناً لمواجهة «صفقة القرن» ووأدها في مهدها. حسناً، ألا يتطلّب تحقيق هذا الهدف إقرار مصالحةٍ وطنية يتأتّى عنها توليد وحدة وطنية وتأكيد اعتبار قطاع غزة مكوّناً أساسياً من مكوّنات الدولة إلى جانب الضفة الغربية في مسار تكاملها على كامل مساحة فلسطين التاريخية؟ وهل كثير على محمود عباس وأركان سلطته وقياديي «فتح» أن يستعجلوا تدوير الزوايا بغية التوصل مع سائر الفصائل إلى إقرار مصالحة وطنية تكون أساساً وضمانة لتهدئة عملانية تُسهم في مساعدة أهل القطاع على مواجهة شرور الحصار ومتاعبه وتكلفته الاقتصادية والسياسية الباهظة؟
ثم، أليس جديراً بسائر الفصائل، ولا سيما «حماس»، أن تترسمل على نجاحها في ردع «إسرائيل» وإكراهها على التماس التهدئة كي تغتنم الفرصة المتاحة مرحلياً لتكييف مطالبها وشروطها مع ضرورات التوصل إلى مصالحةٍ وطنية قبل إقرار التهدئة مع «إسرائيل»؟
إذا كان كسر الكيان الصهيوني عسكرياً متعذّراً في الوقت الحاضر، فإنّ كسر الأهواء والنوازع والمصالح الذاتية بغية التوصل إلى مصالحة وطنية ليس معجزةً تتطلب تدخلاً إلهياً، بل يكفي توافر إرادة وطنية قاطعة وقرار سياسي حاسم.
ثم لنفترض آسفين انّ إقرار المصالحة الوطنية لن يسبق إقرار التهدئة العملانية، فهل يصعب على صنّاع اتفاق التهدئة أن يضمّنوه أحكاماً وبنوداً تسهّل إقرار المصالحة الوطنية لاحقاً او تحول، في الأقلّ، دون عرقلتها أو الإيحاء بأنّ مسار التهدئة يقود، لا سمح الله، الى الفصل بين قطاع غزة والضفة الغربية؟ لتحقيق هذه الغاية النبيلة يمكن تضمين محضر اتخاذ قرار الفصائل بالاتفاق على التهدئة العملانية الأحكام والالتزامات الآتية:
أولاً، إنّ الفصائل الموقعة عليه والملتزمة أحكام التهدئة العملانية المعلنة هي جزء من منظمة التحرير الفلسطينية بما هي الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني المناضلة من أجل التحرير والعودة، كما من أجل بناء الدولة الفلسطينية المستقلة على كامل مساحة فلسطين التاريخية.
ثانياً، انّ فصائل المقاومة الفلسطينية تجدّد دعوتها إلى إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية على نحوٍ يؤمّن اضطلاعها بقيادة الشعب الفلسطيني في مقاومته المدنية والميدانية من أجل التحرير والعودة.
ثالثاً، إنّ الهدف الأساس لإقرار التهدئة العملانية هو التخفيف من شرور الحصار الوحشي الذي تفرضه «إسرائيل» على قطاع غزة وسكانه، وانّ التزام التهدئة لن ينهي أو يعطل كفاح فصائل المقاومة الفلسطينية من أجل رفع الحصار نهائياً، وفتح جميع المعابر الموصلة إلى القطاع، وتأمين تواصل سكان القطاع ومؤسساته مع الشعب الفلسطيني في وطنه وشتاته، ومع الأمة العربية قاطبةً.
رابعاً، إنّ إقرار التهدئة والوفاء بمتطلباتها لن يُعطّلا أو يُوهِنا التزام فصائل المقاومة الفلسطينية بإقرار المصالحة وبناء وحدة وطنية تقود إلى إقامة حكومة وفاق وطني تكون مسؤولة عن إدارة الشؤون العامة في الضفة الغربية وقطاع غزة والمرجع الرئيس لتمثيل الدولة الفلسطينية في المحافل الدولية.
خامساً، إنّ فصائل المقاومة الفلسطينية تعتبر نفسها جزءاً لأ يتجزأ من جبهة المقاومة العربية ضدّ التحالف الصهيو-أميركي المعادي للأمة العربية ومصالحها القومية، وتؤكد التزامها التضامن الفعلي مع دول الطوق العربية بكلّ القدرات والوسائل المتاحة في حال تعرّضها إلى أيّ عدوان من «إسرائيل» وحلفائها.
لعلّ في اعتماد هذه المقاربة ما يفضي، في غمرة التحديات والظروف الشائكة الراهنة، إلى تحقيق فضيلتين ساميتين في زماننا الرديء: التهدئة العملانية والمصالحة الوطنية.