صفقة القرن الثانية: ديّة خاشقجي تدفعها السعودية لتركيا واميركا…
د. عصام نعمان
اعترفت السعودية ، بعد مماطلة محسوبة ، بالقضاء على جمال خاشقجي غيلةً . كيف ؟ خلال “شجارٍ” معه داخل القنصلية السعودية في اسطنبول . لكن القاتل ، او القتلة ، ظلّوا مجهولين وكذلك كيفية القتل ومصير الجثة !
لم يصدر تعليق رسمي عن انقرة عقب البيان السعودي السخيف. لكن وسائل اعلامية عدّة ذكّرت العالم بأن الملك سلمان اتصل هاتفياً بالرئيس اردوغان قبل ساعاتٍ معدودة من صدور البيان . هل بحثا في صفقةٍ للفلفلة الجريمة المدوّية ، وفي ديّة الإعلامي السعودي المغدور ؟
لعل صفقة القرن الثانية تأكّدت او كادت بمسارعة الرئيس الاميركي الى امتداح “وثوقية” البيان السعودي وتمنّيه على الكونغرس بألاّ يقسو في معاقبة الرياض تفادياً لخسارة صفقة سلاحٍ معها تربو قيمتها على 110 مليارات (بلايين ) دولار.
كم تبلغ قيمة ديّة خاشقجي التي ستتقاسمها تركيا واميركا؟ من السابق لأوانه تحديد المبلغ الإجمالي لأن ابواب التحقيق الجنائي في تركيا لم تُغلق بعد ، ولأن ابواب المساومة السياسية والمالية لم تغلق ايضاً بين اطراف الصفقة الثلاثية.
أيّاً ما كانت طريقة القضاء على خاشقجي فإن لتصفيته الوحشية ذيولاً ومفاعيل سياسية واقتصادية و…وجودية. ابرز المفاعيل السياسية المرجَّحة انشقاقٌ في الاسرة الملكية السعودية . قد ينجح الملك سلمان في إحتواء ذيول الجريمة على حساب بضعة مستشارين في ديوانه وضباطٍ وادواتِ تقتيل وتقطيع اوصالٍ في ادارة استخباراته ، وقد لا ينجح فيتعمق الإنشقاق في الاسرة الملكية بعديدها الكثيف وبتاريخ صراعاتها العنيف .
ابرز المفاعيل الاقتصادية تداعي السمعة المالية الشاهقة للمملكة وربما ملاءتها ايضاً . بوادر التداعي ساطعة : غالبيةُ وزراء المال والاقتصاد في دول الغرب الكبرى ، المدعوون الى المشاركة في مؤتمر “دافوس في الصحراء” المخصص للبحث في مجالات الإستثمار والتنمية في المملكة ، اعلنوا إمتناعَهم عن الحضور وكذلك ممثلو وكالات اممية ومصارف وشركات عالمية طامحة الى تنفيذ مشروعات استثمارية كبرى.
ابرز المفاعيل الوجودية وأخطرها احتمالُ تطور ردود الفعل على تقطيع اوصال خاشقجي ــ في حال ثبوته ــ الى تصدّع كيان المملكة وربما تقطيع اوصالها جغرافياً وسياسياً. متابعو المشهد السعودي عن كثبٍ محيطون بالمخططات والسيناريوهات التي طالما ارتسمت عناوينها وترددت اصداؤها في اروقة واشنطن السياسية وقاعات مؤسسات الأبحاث والدراسات الكبرى Think Tanks المعنية بشؤون الشرق الاوسط والقريبة من البيت الابيض وكبار اعضاء الكونغرس ومسؤولي وزارتي الخارجية والدفاع .
حدّة ردود الفعل على الحدث الجلل في عواصم الغرب الأطلسي توحي بأن لها مرامٍ تتعدى الانتصار لحقوق الإنسان والحرص على احترام احكام القانون الدولي . فقد ايقنت عواصم القرار انه يتعذّر عليها احتواء مفاعيل الجريمة النكراء بوسائل وتخريجات تقليدية ، وانه يقتضي اتخاذ تدابير سياسية غير عادية ذات ابعاد استراتيجية لمواجهة تحدياتٍ قد تنشأ عن إستحقاقاتٍ آتية :
اولاً ، الإنتخابات النصفية الاميركية مطلعَ شهر تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل وحرص الرئيس ترامب وحزبه الجمهوري على الحؤول دون انعكاس تصفية خاشقجي سلباً على حظوظهما الإنتخابية واحتمال تطورها لمصلحة الحزب الديمقراطي المعارض المتربص بترامب والراغب في عزله او ، على الاقل ، الحؤول دون انتخابه لولاية ثانية.
ثانياً ، حملة العقوبات الاميركية على ايران المقرر تعزيزها بعقوبات جديدة اشد قسوة مطلعَ الشهر المقبل . فإدارة ترامب حريصة على الإستمرار في شنّ حملتها العقابية تلك ويهمها تالياً عدم إضعاف السعودية لتفادي انعكاسات تصفية خاشقجي على دورها المالي والنفطي في دعمها .
ثالثاً ، دور ايران وسائر اطراف محور المقاومة في التصدي لسياسة الولايات المتحدة والكيان الصهيوني في عالم العرب ، ولاسيما في سوريا والعراق ولبنان وفلسطين المحتلة حيث تدعم واشنطن بعض التنظيمات الإرهابية الناشطة ضد قوى المقاومة المساندة لحكومات سوريا والعراق ولبنان ، الحريصة على وحدة بلادها وعلى مواجهة تحركات “اسرائيل” العدوانية والتوسعية .
رابعاً ، دور روسيا في منطقة غرب آسيا ، ولاسيما بعد تفاهمها مع ايران بشأن مواجهة التنظيمات الإرهابية والمحافظة على وحدة سوريا والعراق ، ونزوعها الى توظيف جهود سياسية وتسليحية وازنة في تركيا لحملها على التخلي عن حلف شمال الأطلسي.
خامساً ، حرصُ الولايات المتحدة على مواصلة مجابهة روسيا اقليمياً وعالمياً للحدّ من جهودها الرامية الى تقليص وحدانية اميركا القطبية إبتغاء بناء تعددية قطبية مفتوحة ، كما نزوع ترامب الى مواصلة الحرب التجارية ضد الصين بغية الحدّ من نموّ اقتصادها العملاق وامتداداته في شتى انحاء العالم، ولا سيما في افريقيا واميركا الجنوبية ، ناهيك بإستكمال متطلبات مشروع طريق الحرير الممتدة من الصين عبر بلدان شرق آسيا وغربها وصولاً الى اوروبا.
ما يجري حاليّاً بين عواصم القرار المعنية بإحتواء تداعيات تصفية خاشقجي هو هندسة إخراج قانوني واعلامي يكون مقبولاً من الرأي العام العالمي، والتوافق على تسوية سياسية وعملانية ضمنية بين الأطراف المعنيين تكفل حصول اقويائهم على المكاسب المالية الوازنة ، وتعزيز مصالحهم الإقتصادية ، وتحصين مواقعهم الأمنية في السعودية خصوصاً والمنطقة العربية عموماً .
لئن كانت الولايات المتحدة وربيبتها “اسرائيل” وسائر حلفائها من العرب المحافظين هم الفريق الاكثر تضرراً من جريمة تصفية خاشقجي وملابساتها وتداعياتها ، فإن اطراف محور المقاومة والممانعة هم المستفيدون من الحدث الجلل بمقادير متفاوتة. على ان افادتهم تلك تبقى مهددة بما تدّخره الولايات المتحدة و”اسرائيل” من تحركات ، وحتى هجومات ، ضد ايران وسائر اطراف محور المقاومة والممانعة لمنعها من الكسب والإستقواء على الخصوم والاعداء الاقليميين.
العيون شاخصة حالياً نحو السعودية ، تترقب بقلقٍ وشغفٍ في آن معاً ما يمكن ان تتكشف عنه تداعيات الحدث الجلل داخلها . ذلك ان ما جرى ويجري وسيجري في السعودية سيكون ترجمةً لمواقف اللاعبين الكبار وإرهاصاً بالمتغيرات القادمة والمؤثرة في الخريطة السياسية لمعظم بلدان شبه جزيرة العرب.