لعنة فلسطين تحلّ عليهم!
صادف يوم 29 تشرين الثاني الفائت الذكرى الـ71 لصدور قرار تقسيم فلسطين عن الجمعية العامة للأمم المتحدة والذي حمل الرقم 181 وأعطى بموجبه 42.3 بالمئة من فلسطين للفلسطينيين و57.7 بالمئة من فلسطين لليهود رغم التفاوت في نوع الأراضي وتوّفر المياه لمصلحة الدولة اليهودية طبعاً. على حين نصّت الفقرة الثالثة منه على أن القدس وبيت لحم والأراضي المجاورة، تحت وصاية دولية. وارتفعت في ذلك الحين أصوات عربيّة تهدّد بنسف هذا القرار واستعادة فلسطين، كلّ فلسطين لأهلها وأصحابها الشرعيين، إلا أن القيادات الصهيونية دعت إلى تجاهل ما يقوله العرب واعتبرته يصبّ في خانة الكلام تعويضاً عن الأفعال.
وبعد واحد وسبعين عاماً من كلّ المتغيرات الإقليمية والعربيّة والفلسطينية والدولية قد يكون من المفيد، أو من الضروري، ربما، إجراء مراجعة سريعة للفرق بين الأمس واليوم ومحاولة استشراف مسار الأحداث في المستقبل القريب والمتوسط. علّ أهم ما يميّز هذه الذكرى لتقسيم فلسطين هو الانقسامات الحادة بين الفلسطينيين أنفسهم من جهة وسرعة عربة التطبيع بين الكيان الصهيوني وبعض الدول العربيّة من جهة أخرى، وهذان الأمران متقاطعان ويتركان أثراً بالغاً في مستقبل الصراع وفي المآل الذي يمكن أن تؤول إليه الأمور في منطقتنا والعالم.
فأمّا بالنسبة للانقسامات والشرذمة التي نشهدها في صفوف الفلسطينيين، فإن هذه هي أخطر ما أضعف القضية الفلسطينية في نظر أهلها والعالم. إذ مازال العالم الصديق والخصم يتابع سلطات تحت الاحتلال تتنازع على شرعية وهمية وحركات مقاومة يفقدها الزمن عوامل التمويل والقوّة، هذا عدا حرب إعلاميّة غير مسبوقة تقلب الأمور رأساً على عقب في أعين وعقول المشاهدين والمتابعين. ويتزامن مع هذا كلّه تغيير جوهري في الإستراتيجية الإسرائيلية والتي كانت، ولو ظاهرياً ومنذ قرار التقسيم، تدّعي الحرص على حلّ الصراع العربيّ الإسرائيلي من خلال حلّ معضلة فلسطين، هذا التغيير الذي يركّز اليوم على التطبيع وتعزيز العلاقات مع دول عربيّة وإهمال الملف الفلسطيني على اعتبار أن التطبيع مع العرب «سيوفر حلاً للمشكلة الفلسطينية»، كما أسماها نتنياهو بدلاً من الاعتقاد الذي كان سائداً «أنّنا إذا قمنا بحل المشكلة الفلسطينية، فإن ذلك سيفتح الباب أمام علاقات أفضل مع العالم العربيّ». إذاً بالنسبة لرئيس وزراء العدو هناك مشكلة فلسطينية، وقد تغيّرت المقاربة تجاه هذه المشكلة، فلا تطبيق قرار التقسيم ولا إنشاء دولة فلسطينية هو الحل بل التطبيع مع العرب في زمن يعلن فيه نتنياهو «أنّ لدى إسرائيل علاقات قوية بالعالم العربيّ المعتدل، وهي علاقات تشهد تحوّلاً، غير مسبوق، ومنها دول رئيسة تدرك أكثر فأكثر ما قيمة العلاقات مع إسرائيل». ومع تسارع هذا التوجه يزداد الغرور والتعنت الإسرائيليان ويسود الاعتقاد أن هذه الهرولة للتطبيع هي نتاج تميّز هذا العدو وانبهار المطبعين بإنجازاته وفرادته ومكامن قوّته، ويختفي نهائياً أي حديث أو حتى إشارة إلى الحقوق وأصحاب الأرض والظلم التاريخي الذي لحق بهم وحتمية قيام الأجيال برفع هذا الظلم عن كاهل الآباء والأجداد.
وفي نظرة أعمّ وأشمل على هذا الصراع وعلى مجريات الأحداث في المنطقة والعالم نلمس مؤشرات تفاعل قضية فلسطين المحقّة مع الحركات والمجتمعات في العالم وتأثير هذه القضية المتنامي على مستقبل هذه المجتمعات بشكل مباشر أو غير مباشر. إذ إن الدراسات الموضوعية تظهر حجم حركات المقاطعة للكيان الصهيوني في أوروبا والعالم وتنامي التأييد لعدالة القضية الفلسطينية في الأوساط الأكاديمية الغربيّة وانكشاف المستور بالنسبة لعنصرية الكيان الصهيوني وخططه السوداء في المنطقة والعالم، الأمر الذي يعبّرون عنه بتنامي اللاسامية، ولكنّه في الواقع تنامي الشعور بتأييد العدالة من أجل فلسطين والفلسطينيين.
والمشكلة الجوهرية في تفكير حكّام الكيان الصهيوني هي أنهم عنصريون ويعتقدون بتفوقهم على كلّ العناصر البشرية كائنة من كانت، ولذلك فإن الذي يقود مسارهم هو الغرور ولم ينجح الغرور أبداً في أي مرحلة من التاريخ أو في أي بقعة من العالم. وعلّ هذا السراب الذي يبنون عليه سينكشف لهم بأنّه أوهن بكثير ممّا يظنون، لأن قوّة الشعوب وإيمانها بالعدالة هي التي حكمت مسار التاريخ في كلّ أنحاء المعمورة. وها نحن نجد الوجه الآخر من الأحداث، والذي لا يتمّ تسليط الضوء عليه من شركات الإعلام العالمي، يصفع العالم ويبرهن أنه ليس رهينة للدعايات الإعلامية، وأنّ الواقع أقوى ممّا يدّعون، وأصدق ممّا يحلمون. لقد كشفت الأيام الأخيرة وبشكل غير مقصود أن دولاً غربيّة كثيرة تعتاش على الصراع العربيّ- الإسرائيلي، إذ إنه مدهش عدد الدول الغربيّة التي تصدّر السلاح للسعودية وتغذي صناعاتها العسكرية من أموال النفط، وإذا ما اقترن هذا الخبر بتأكيدات ترامب وعدد من أعضاء إدارته بأن السعودية أساسية «لإسرائيل»، فإنّنا ندرك حجم الدور الذي يلعبه مال النفط وتصنيع السلاح في عمق مجريات الصراع العربيّ- الإسرائيلي. وإذا ما تأملنا قمة العشرين واللغة واللقاءات والتصريحات في هذه القمة، والمستوى الذي نضح من هذه القمة، ندرك تماماً أن العالم برمّته يعيش أزمة أخلاق وأزمة قيادات قد تكون القضية الفلسطينية هي بمنزلة المركز منه، والذي يعطي المؤشرات والدلالات للزمن القادم. إذ لم نعد نسمع قادة يتحدثون عن عدالة أو رفع الظلم أو إحقاق الحقوق، ولم نعد نلمس هيبة قيم أخلاقية لدى العديد من هؤلاء القادة، ولكنّ الردّ على هذا التردّي يظهر من خلال أعمال شغب شهدتها باريس لم يكن أحد ليتصوّر وقوعها وشكلها منذ أيام خلت. وتأتي التصريحات التي لا ترى أي سبب لهذه الأعمال لتبرهن الانفصام بين من يعتقدون أنهم يحركون مقوّد التاريخ وبين الواقع الميداني على الأرض ونبضات الشعوب التي كانت وعلى مدى دهور هي الصانعة الوحيدة للتاريخ والمتحكمة بتوجهاته المستقبلية.
نعم، إن العالم اليوم يمرّ بعصر عزّ فيه الحياء حتى على مستويات كانت إلى وقت قريب تعتبر مرموقة، ونعم، إن العالم اليوم يتخذ من وسائل التواصل غطاء لا يقيم للقيم الإنسانية التقليدية وزناً، ونعم، إن العالم اليوم قد ابتعد أيما ابتعاد عن منطق «الحارة والقرية والمدينة» ومنطق السمعة الطيبة وأهمية الوجاهة بين البشر، ونعم، إن العالم اليوم يعاني من أزمة قيادات وأزمة أخلاق، ولكنّ كلّ هذا وذاك هي مظاهر الأزمة الدولية التي تمر بها البشرية اليوم والتي تقبل الظلم والقتل والإجرام وتنحني للقوة والمال.
والسؤال هو كم سوف تستمر هذه الظاهرة؟ وكم هي مرتبطة بقضية فلسطين واللعنة التي شكلتها هذه الديار المقدسة على الأحداث الإقليمية والدولية والتي سوف تستمرّ بالتدخل في ظلال الأحداث إلى أن يبلغ الظلم منتهاه، وتُستعاد الحقوق لأصحابها الشرعيين؟ وعلى من يعتقد أنه يعيش في واحة من القوّة أن يعيد حساباته ليدرك أن العالم بالفعل قرية صغيرة وأنّ الأحداث على المستوى الإقليمي والكوني متداخلة ومتفاعلة، ولا أحد يستطيع منع ذلك أو إيقافه، فمتى يعود العالم إلى رشده وينتهي من مرحلة الغرور والسطحيّة والتجبّر ويعمل على استعادة الحقوق لأصحابها الشرعيين، وتنتفي نظريات العنصرية والفرادة والاستعلاء والهيمنة، حينذاك فقط تحلّ عن العالم لعنة فلسطين ويبدأ مسار جديد حقيقي للسلام والأمن والاستقرار في العالم برمّته.
بقلم: بنت الأرض