ربما كان اكتفاء الرئيس الفرنسي بمتابعة ما يجري في بلاده من احتجاجات شعبية تصاعدت بشكل دراماتيكي، وانتشرت في مناطق كثيرة حتى وصلت إلى قلب العاصمة الفرنسية باريس، ربما كان ذلك رسالة تفيد بأن ماكرون واثق من نفسه، ومتمسك بموقفه الرافض لمطالب المحتجين، وكأن الاحتجاجات عاصفة عابرة.
لكن سلوك الرئيس هذا زاد سخط مواطنيه، وفاقم استياءهم من استعلائه وتعامله الفظ واستهتاره، إذ كيف يمكن لرئيس دولة أن يتفرج من بلد آخر (الأرجنتين) على بلاده، والنار تشتعل في أهم شارع من شوارع عاصمتها وأكثرها قيمة رمزية …!.
وربما كان الرهان على أن الاحتجاجات لن تستمر طويلاً، وأنها محكومة بالتراجع ممكناً قبل أول أمس، حيث حقق المحتجون انتصاراً معنوياً مهماً على السلطة المتغطرسة، أما بعد ذلك اليوم، فقد بات الاستمرار في هذا الرهان ضرباً من الغباء السياسي، أو إنكار الواقع.
ولن يستطيع الرئيس الفرنسي الاستمرار أكثر في التفرج، والتمسك بموقفه، فلم يعد لعناده أي معنى، ولا بد له من العمل على إيجاد حل ما للمعضلة التي يواجهها. فما هي الخيارات الممكنة أمامه؟.
من الصعب طبعاً أن يتراجع ماكرون دفعة واحدة، ويرضخ لمطالب المحتجين، فذلك يهدد مستقبله السياسي، ولذا فإن من المتوقع أن يلجأ إلى الحوار باستخدام المرونة هذه المرة، وليس الأذن الصماء وصولاً إلى اتخاذ بعض الإجراءات التي يمكن أن ترضي المحتجين، حتى ولو لم تحقق مطالبهم كاملةً. لكن الصعوبة هنا تكمن في عدم وجود قيادة مركزية للاحتجاجات الشعبية، فضلاً عن أن ما يريده المحتجون، كما أظهرت شعاراتهم، يتجاوز إيقاف زيادة الضرائب، ورفع أسعار الوقود إلى مطالب سياسية على رأسها استقالة الرئيس نفسه.
ويذهب بعض المحللين إلى أن ماكرون سيضطر إلى التضحية برئيس حكومته لتشكيل حكومة جديدة يمكنها التوصل عبر الحوار مع المحتجين إلى اتفاق ما…
لكنْ مهما كان الحل الذي سيختاره الرئيس الفرنسي، فإن المؤكد هو أن فرنسا تعيش اليوم أزمة عميقة سيكون لها تداعيات شديدة التأثير على المشهد السياسي والاجتماعي فيها، فما يحدث اليوم لم يأتِ رداً على ارتفاع الضرائب، وزيادة أسعار الوقود، فهذه ليست سوى القشة التي قصمت ظهر البعير، وحقيقة الأمر أن فرنسا فقدت في العقدين الأخيرين، على الأقل، خصوصيتها الاجتماعية والثقافية التي تشكلت عبر سيرورة تاريخية حافلة منذ قيام ثورتها الشهيرة، وحققت للفرنسيين الأمان الاجتماعي في الداخل، ولبلدهم السمعة والهيبة الدوليتين في الخارج، وقد بدأ فقدان هذه الخصوصية منذ الحقبة الشيراكية، واكتمل، وترسّخ أثناء حكم ساركوزي وهولاند وماكرون، حيث التهمت النيوليبرالية المتغوّلة المكاسب الاجتماعية، وأذابت الخصوصية الفرنسية في أتون العولمة وسياسات الاتحاد الأوروبي، وأدت التبعية الخارجية إلى تجويف السياسة الفرنسية، وإفراغها من أي مضمون قيمي ومبدئي، وتحوّل الطبقة الحاكمة إلى طبقة وظيفية فاسدة في خدمة رأس المال، طبقة قابلة حتى لبيع نفسها مقابل البترو دولار… وهذا ما يفسر الأهداف السياسية للاحتجاجات التي لم يكن وجهها المطلبي سوى الجزء الظاهر من جبل الجليد، أما الجزء الخفي، فلم يلبث أن أعلنت عنه في شعاراتها وبياناتها الرافضة للسياسات الحكومية الحالية بما فيها السياسة الخارجية، والمنددة بالمواقف الفرنسية في سورية واليمن وليبيا… ما يعني أن الصراع الدائر اليوم في فرنسا هو بين أغلبية متضررة من السياسات الحكومية الداخلية والخارجية، وتريد الإطاحة بهذه السياسة وبحواملها، وإعادة الروح إلى الخصوصية الفرنسية المفقودة، وبين أقلية مسيطرة مالياً واقتصادياً وإعلامياً تريد الاستمرار في سياسة تفقير الفئات الواسعة من الشعب الفرنسي بما فيها الطبقة الوسطى على الصعيد الداخلي، والتبعية، وانعدام الرؤية، والتفريط بهيبة فرنسا ومصالحها الوطنية على الصعيد الخارجي…
صراعٌ عميق سيتحدد بنتيجته مستقبل فرنسا.
محمد كنايسي