المصلحة الوطنية.. وتحولات النظام الدولى (1-2)
د. جمال زهران
تعتبر وظيفة المفكر السياسى خصوصًا الوطني، من أهم الوظائف فى الدولة التى ينتمى إليها. فهو يؤثر بما يكتبه أو يقوله، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة فى عملية صنع القرار السياسى وبدرجة ما من الحد الأدنى إلى الحد الأقصي. فهو يقوم بوظيفة تقديم الرأى مدعومًا ومدروسًا ومؤسسًا على قراءة هى الأقرب للصحة من وجهة نظره. بل إنه فى ضوء ما يختاره من موضوعات، يكاد يلفت النظر إلى ما يغيب عن التناول إن لم يكن يحدث، والتناول الموضوعى لما يحدث فعلاً. إنه يحاول أن يشد المجتمع إلى قضايا الحاضر والمستقبل، دون الإغراق فى الماضى بمذكرات وغيره. إلا أن الماضى قد يكون أحد المرجعيات لدعم القراءة الجادة للحاضر ومحاولة استشراف المستقبل. تلك هى وظيفة المثقف الوطنى الذى يرسم صورة الحلم الذى يرى بلاده تعيش فيه، وعلى من بيدهم القرار أن يستفيدوا لأنهم حسب تقديراتهم هم فى خضم المعترك. تلك مقدمة لمقالين أراهما مهمين فى هذه الفترة الصعبة الذى يمر بها النظام الإقليمى والنظام الدولي، حاليًا.
فالمصلحة الوطنية للدولة المصرية الآن، تدرك التحولات الجارية، وابتداءً من اندلاع الثورات العربية فى تونس ومصر، وإقحام دول مثل ليبيا واليمن وسوريا فى المشهد الثوري، بلا أى أساس، ولكن كان المستهدف هو تفكيك هذه البلدان الثلاثة وتدميرها بشكل ممنهج، تحقيقًا لمصالح المشروع الأمريكى الصهيونى وأنصاره وتوابعه فى النظام الإقليمي، وحتى الآن.
ثمانية أعوام كافية لإعادة القراءة لهذه التحولات، فلا يزال البعض من المحللين يرون، بل ويروجون، أن النظام الدولى هو أحادى القطبية وأن أمريكا مازالت هى المسيطرة على هذا النظام وبالتالى يصيغون سياساتهم الوطنية على هذا الأساس، وهو ما يسمى فى علم العلاقات الدولية بسوء الإدراك.
فسوء الإدراك لدى الرئيس العراقى الأسبق صدام حسين، انطلق من حسابات أنه بغزوه الكويت فى 2-أغسطس 1990م، سيكون مدعومًا من الاتحاد السوفيتي، بل وسيكون حائلاً أمام السماح للعالم باستخدام القوة بإخراجه منها، على خلفية أن الاتحاد السوفيتى كقطب دولى منافس، لن يسمح باستخدام القوة على حدوده مهما يحدث. ولا أظن أن هناك معلومات تؤكد تنسيقًا بين العراق (صدام)، وبين الاتحاد السوفيتى فى زمن ما بعد جورباتشوف.
ولكنه تقدير سياسى من صدام حسين قائم على إدراكه طبيعة النظام الدولى ثنائى القطبية. إلا أن هذا الإدراك كان خاطئًا، لأنه لم يقرأ القراءة السليمة لنظام دولى آنذاك، دخل معترك التحول بالخروج التدريجى للاتحاد السوفيتى وأفوله كقطب دولي، وفى المقابل انفراد أمريكى تدريجى بالنظام الدولى الذى تحول إلى أحادى القطبية.
ولعل ما يؤكد استنتاجنا، أن الاتحاد السوفيتى فى قرار مجلس الأمن الثامن ضد العراق فى نوفمبر 1990م، وافق على استخدام القوة لإنهاء الاحتلال العراقي، على عكس إدراك صدام أن هذا لن يحدث! وكانت النتيجة كما رأيناها، هى إخراج العراق بالقوة من الكويت، ثم الحصار ثم الاحتلال ثم التدمير والتفكيك!
وهناك فى الحقيقة مناظرة كبرى فى أدب العلاقات الدولية، حول مدى قدرة كل من نسقى القطبية الثنائية وتعدد الأقطاب، على تحقيق قدر أكبر من الاستقرار الدولي، وكذلك النظام الأحادى القطبية، وهو ما ورد فى كتاب مهم للدكتور لويد جنسن، بجامعة تمبل بالولايات المتحدة الأمريكية، التقيته فى أثناء عملى كأستاذ زائر بالولايات المتحدة، وأهدانى نسخة منه. ومن المفيد أن أعرض لخلاصة ما يراه أساتذة العلاقات الدولية فى هذا المضمار، لعل صناع القرار فى بلادنا وهم فى الأصل حريصون على المصلحة الوطنية، أن يأخذوا بعين الاعتبار، حقيقة الإدراك السليم لتحولات النظام الدولي، تفاديًا لسوء إدراك قد يجلب المصائب أكثر مما هى قائمة، وذلك هو موضوع المقال القادم بإذن الله.