المصلحة الوطنية.. وتحولات النظام الدولى(3-3)
د. جمال زهران
انتهينا إلى التساؤل عما يجرى حاليًا فى النظام الدولى من تفاعلات وتحولات، قد يكون لها من التأثير على الدول الصغرى والمتوسطة، ومصلحتها الوطنية؟. وقد يدرك صناع القرار هذه التحولات، فتتحدد اختياراتهم فى ضوئها، وقد لا يدركون ما يجرى من تفاعلات أو تحولات، إما بعدم الوعى أو بالتجاهل، أو بالقراءة الخاطئة لما يحدث، فتكون النتيجة هى سوء الإدراك، وتبعاته خيارات خاطئة قد تعصف بالمصالح الوطنية للدول الصغرى فى لحظة أو فترة زمنية معينة.
مراكز الفكر فى العالم، مهتمة بما يحدث فى العالم وتقدم توصياتها لمن يريد أن يعرف، فآخر عدد من مجلة «فورين أفيرز» الأمريكية، يناير/ فبراير 2019م، تضمنت ملفًا عما يجرى فى النظام الدولى حاليًا من تحولات تحت عنوان: من الذى سيتحكم أو يسيطر على العالم؟ أمريكا أم الصين، أم النظام العالمي؟ حيث يتحدث هذا الملف عن التأسيس الرابع للنظام الدولى وحجم دور العلاقات المتحدة والنظام الليبرالى الرأسمالي، وكيفية انتهاء أو تلاشى نظام دولي، وما هو آت فى يقظته؟، أى من الذى سيأتى من رقدته إلى النظام الدولي، والقوة العظمى الخفية وكيف تخفى الصين طموحاتها العالمية؟ وظهورها الحتمي؟. وقد تركزت هذه المقالات على المخاوف من البروز العالمى للصين كقوة عظمى لها طموحات تخفيها، وحتمية تأثيرها على النظام الدولى الذى يشهد انقسامًا كبيرًا وحادًا. وقد أكدت هذه المقالات، ما سبق لى أن استلخصته فى قراءاتى لتحولات النظام الدولي، والتى يمكن أن أركزها فيما يلي:
ــ تأكيد وتحول النظام الدولى من أحادية قطبية تحت السيطرة الأمريكية، إلى ثنائية قطبية مرنة تسمح بدخول أقطاب جدد، وذلك ببزوغ نجم القطب الروسي، بنفوذه فى سوريا وعدم سماحه بتعريضها إلى مصير العراق وليبيا بأى ثمن. وقد تأكد للغرب ذلك عندما فتحوا جبهة أوكرانيا، فكان الرد حاسمًا من روسيا، ونجحت روسيا فى الاختبار وتأكدت قدرة روسيا على المنافسة الدولية والمزاحمة لأمريكا فى مناطق النفوذ فى العديد من المناطق.
ــ إن الثنائية القطبية الجديدة التى تولدت مع الثورات العربية فى عام 2011م، وعلى مدار ثمانية أعوام، تسمح بظهور الصين كقطب عالمى ويمثل ثنائى الشرق بالتنسيق مع روسيا، ولعل ما يؤكد ذلك، حالة التنسيق والتوحد فى المواقف بين روسيا والصين، فى مجلس الأمن تجاه القضايا والأزمات المطروحة، وآخرها أزمة فنزويلا وفشل أمريكا فى استخدام مجلس الأمن ليكون غطاءً لها فى التدخل فيها.
ــ إن هذه الثنائية القطبية المرنة، تسمح بمحاولات أوروبا للظهور كقوة وقطب دولى ولكنه منفصل عن أمريكا، وربما فى التصريحات الفرنسية ـ الألمانية عن تأكيد تشكيل قوات عسكرية أوروبية بعيدة عن الناتو، خير إشارة إلى ذلك.
ــ إن حالة الانسحاب الأمريكى منذ أن تولى ترامب الحكم فى 20 يناير 2017م، من الاتفاقيات العالمية، كالمناخ، والاتفاق النووى مع إيران، وغيرها من الانسحابات، كالانسحاب العسكرى من سوريا وأفغانستان راح ضحيتها وزير الدفاع الأمريكى الذى استقال وغيره من موظفى البيت الأبيض. كما أعلنت أمريكا الانسحاب من اتفاقية الحد من الأسلحة الاستراتيجية (الصواريخ النووية متوسطة المدي)، الأمر الذى قد يعيد الحرب الباردة وسباق التسلح. إلا أن الانسحابات الأمريكية قد تؤشر على تراجع مكانة أمريكا كقطب دولى والعودة إلى العزلة والانكفاء على الذات. وفى بعض التفسيرات قد تؤدى بالمصير الأمريكى مثلما حدث للاتحاد السوفيتى تحت قيادة جورباتشوف، الذى تبنى الانسحابات السوفيتية مثلما هو حادث تحت قيادة ترامب لأمريكا.
ــ تولد أقطاب إقليمية فى مناطق مختلفة، لها من التأثير على تبدل خريطة النفوذ العالمى للأقطاب العالميين القدامى والجدد والمحتملين، ومن هذه المناطق (الشرق الأوسط ــ أمريكا اللاتينية ــ آسيا).
وخلاصة النظام العالمى والتحولات الجارية، أن نظاما جديدا استقر على ثنائية قطبية مرنة، وأن انسحابا أمريكيًا يجرى على قدم وساق، وأن تقدما فى النفوذ لروسيا والصين، قد يؤدى إلى هيمنة لهما على النظام الدولي. ومن ثم فإن المصلحة الوطنية لمصر وعدد كبير من العواصم العربية، تقتضى إدراك ذلك وعدم التغافل عن هذه الحقيقة. وعلينا أن نتجه إلى إعادة صياغة قراراتنا وسياستنا، بعيدًا عن أمريكا واقترابًا من روسيا والصين ومراكز نفوذهما.