توطين النازحين: التشريد الديموغرافي وصولاً الى التقسيم الجغرافي
د. عصام نعمان
خَسِر التحالف الصهيواميركي حربه الخشنة بهزيمة “داعش” في بلاد الرافدين ومن ثم في بلاد الشام ، فسارع الى تمديدها بصيغة اخرى أقل ضراوة وأكثر فعالية. إنها شنّ حملة توطين النازحين السوريين الى لبنان وتركيا والاردن بالتشريد الديمقراطي وصولاً الى التقسيم الجغرافي، بمعنى تشريد السكان لتسهيل تقسيم البلدان .
كانت الحرب الإرهابية الخشنة قد شردت ملايين السوريين ، وقبلهم العراقيين ، الى البلدان المجاورة . اكثر النازحين لجأوا الى تركيا ، يليها لبنان ، وبعده الاردن. ليس ثمة إحصائية موثوقة للعدد الإجمالي للنازحين السوريين. يتردد ان عددهم في تركيا يربو على الثلاثة ملايين ونصف المليون. عدد النازحين الى لبنان ممن أمكن تسجيلهم لدى مفوضية الامم المتحدة لشؤون اللاجئين يربو على المليون ونصف المليون ، والنازحون غير المسجلين يربو عددهم على النصف مليون . في الاردن يربو عددهم على 700 الف وربما اكثر.
الولايات المتحدة ودول غرب اوروبا تنشط لتوطين النازحين السوريين حيث هم الآن بوسائل متعددة ، مباشرةً او مداورةً . الوسائل المباشرة تتمثل بإعاقة عودتهم الطوعية بتسعير الحرب في بعض مناطق سوراقيا (سوريا والعراق) حيث لاميركا قوات وحلفاء ناشطون على الارض. في سوريا تتبدّى أنشطة هؤلاء العدوانية في المناطق الشرقية على طول حدودها مع العراق ، ولاسيما في شمالي محافظة دير الزور، وفي جنوب شرق سوريا على حدودها مع الاردن ، ولاسيما في منطقة التنف، كما في منطقة مخيم الركبان.
إعاقة عودة النازحين مداورةً تتبدى في الضغط على حكومات البلدان المضيفة لعدم إجازة عودتهم بدعوى حمايتهم أمنياً من شرور حربٍ تدّعي الولايات المتحدة انها ما زالت مستعرة في سوراقيا ، كما في إستخدام منظمات اممية ومؤسسات اميركية واوربية غير حكومية لإغداق اموال على النازحين السوريين وتوفير وظائف لهم لتشجيعهم على البقاء حيث هم.
بحسب مفوضية الامم المتحدة لشؤون اللاجئين ، أُغدقت على بلد واحد من بلدان النزوح السوري ، لبنان ، منذ العام 2011 مبالغ تربو على 6,7 مليارات دولار اميركي ، مع سعي المفوضية المذكورة الى الإستحصال على 2,6 مليار دولار خلال العام الحالي.
أخطر ما في هذه الحملة ان معظم “المنح” المالية جرى توزيعه مباشرةً على المنظمات الدولية والمؤسسات غير الحكومية وتمّ صرفه من دون المرور بإدارات الدولة اللبنانية كما تقضي الاصول الإجرائية. ففي العام 2018 وحده بلغت قيمة الاموال التي صرفتها الولايات المتحدة ، الاتحاد الاوروبي ، بريطانيا ، فرنسا ، المانيا ، ايطاليا، هولندا ، كندا ، النروج واليابان نحو مليار و 478 مليون دولار. بالمقارنة مع هذه “المنح” التي جزمت مصادر رسمية لبنانية بأن لا علم للحكومة بحجمها وكيفية توزيعها ، ثمة اربعة مراسيم صادرة عن مجلس الوزراء اللبناني اشارت الى هبات اربع “لدعم جهود الإستجابة لتداعيات النزوح السوري الى لبنان” بلغت بمجموعها نحو 998 مليون دولار اميركي ، شاركت في تقديمها مفوضية الامم المتحدة لشؤون اللاجئين والحكومة الهولندية واليونيسف. هذه الهبات الاربع فقط اعترفت الحكومة اللبنانية بإستلامها مباشرةً ، اما سواها فلا علم لها بها البتة ولا بطريقة صرفها.
ثمة ما هو أخطر من تقديم اموال باهظة لمؤسسات دولية واخرى غير حكومية لتوزيعها مباشرةً على النازحين السوريين في لبنان بغية تشجيعهم على البقاء فيه . فقد تبيّن ان معظم الدول المانحة تشترط لتقديم المساعدات المادية تسجيلَ عدد النازحين وتوظيفهم كخطوة اولى لتوطينهم في البلدان المضيفة .
من الواضح ان الولايات المتحدة ودول غرب اوروبا تنتهج سياسة عمادها توطين النازحين السوريين في بلدان اللجؤ لثلاثة اسباب وذرائع :
اولها ، اقتناعها بأن كثيرين من هؤلاء قد ينتقلون الى دول غرب اوروبا اذا لم يتمّ توطينهم حيث هم .
ثانيها ، ان الولايات المتحدة و”اسرائيل” لا تريدان لحكومة الرئيس بشار الاسد ان تعيد توحيد سوريا ارضاً وشعباً وبالتالي ترسيخ الاستقرار في ربوعها. ذلك ان عودة النازحين تُسهم في تدعيم حكمه وإضعاف خصومه الداخليين والخارجيين.
ثالثها ، ان التحالف الصهيواميركي ممعن في تنفيذ مخطط تقسيم سوراقيا الى جمهوريات موز على اساس طائفي او قبلي او اثني وصولاً الى احاطة الكيان الصهيوني بكيانات هزيلة لا تقوى افرادياً على مجابهته ولا على الاتحاد فيما بينها لتحمي نفسها منه . ويبدو ان الولايات المتحدة تحاول ، من خلال تموضع قواتها في اجزاء من سوريا والعراق ، تحقيق امرين :
- التشريد الديموغرافي وصولاً الى تفكيك الشعب في سوريا والعراق الى مكوّناته الاولية الإجتماعية والثقافية واستخدامها ضد بعضها بعضاً على نحوٍ يفضي الى القضاء على الوحدة الوطنية داخل البلدين وبالتالي إبقاء النظام السياسي ضعيفاً وخاضعاً للمؤثرات الخارجية.
- تفجير التركيبة الديموغرافية والإجتماعية داخل سوريا والعراق ولبنان والاردن وحتى داخل تركيا ايضاً وذلك بتقليص التعداد الاجمالي لبعض الطوائف ما يؤدي الى تغليب طائفة او طوائف على اخرى وبالتالي اختلال موازين القوى داخل الدول المشار اليها.
حملةُ التشريد الديموغرافي الصهيواميركي هذه بدأت تفرز تداعيات سلبية مقلقة في لبنان وسوريا والعراق ، وهي في طريقها الى إنتاج تداعيات مماثلة في تركيا ، خاصةً مع مثابرة رجب طيب اردوغان على إعتماد سياسة ترمي الى اقتطاع منطقة من شمال سوريا لتحشيد قسم من النازحين السوريين فيها ، وتوطين القسم الباقي حيث يتواجدون حالياً داخل تركيا ما يؤدي ، في ظنه ، الى تغليب اهل السنّة الاتراك على سواهم من مكوّنات المجتمع التركي.
كيف يمكن مواجهة هذا المخطط الصهيواميركي المدّمر ؟
الجواب : بمخطط وطني مقاوم بثلاثة محاور رئيسة :
- اتحاد القوى الوطنية في الدول المضيفة ، ولاسيما في لبنان وسوريا والعراق والاردن ، وتعاونها في تحرير بلدانها من القوات الاجنبية المحتلة وبسط سيادتها على كامل ترابها الوطني بلا قيد ولا شرط.
- توطيد العيش المشترك وبالتالي الوحدة الوطنية داخل كلٍّ من البلدان المضيفة ووضع خطة متكاملة لإعادة النازحين الى ديارهم بالتفاهم مع حكومات اوطانهم الاصلية.
- الإصرار على ان تكون جميع الهبات والمساعدات المقررة للنازحين موجّهة الى حكومات الدول المضيفة وموزعة عليهم بواسطتها مباشرةً في إطار الخطة المعتمدة لتشجيع عودتهم .
اليومَ اليومّ وليس غداً اجراس العودة فلتقرع …