المثقف هو من لا يخون الشعوب
ادريس هاني
كم هو مؤلمٌ أن تخون قضايا الشعوب وأن تتطاول في برجك العاجيّ كمثقّفٍ يبيع الوهم ويتاجر بالخطيئة ويهرب في ما تتيحه اللغة من حُجُبٍ تواري هشاشة الأقضية المنطقية…
كم هو إسفافٌ وقد ينضاف إليه إسفافٌ آخر هو موت الضّمير وينضاف إليه إسفافٌ ثالثٌ هو النّصب والاحتيال على الفعل الثقافي نفسه…
لوددت أن أحمل مطرقةً وأكسر بها ركب من يضعون رجلا على رجلٍ في المواقف الخاطئة…
في مزرعة تفاهتنا اليوم أصبح معيار الثقافة أن تنأى بجلدك الأرقط عن كلّ هذه القضايا ببضع تراكيب تسخر منها أحذيتنا الثقافية… هذه سلطةٌ وهميةٌ يتمّ التوسّل بها لا سيما حين يولع المثقّف المزيّف بالمزايدة بمفاهيم رخوة على المناضلين، وكأنّ الهروب إلى الأمام كالأرانب هو شطارة ثقافوية… سلّم لي على تلك الأرانب، فهي سطحية في الثقافة والسياسة والعيش المشترك… لو كانت هذه الصالونات هي منتهى بُلغة الطالب لسبقنا إليها من طلع عليهم النهار متأخّرا…
يثير سخريتي أكثر من يتطاول بزادٍ من الثقافة يشبه زاد الدليل المزيّف الذي ينقاد له قطيع من السياح يحرّف أمامهم التّاريخ بلا هوادة… كذلك في هذه السياحة المعرفية هناك من يجعل مهنة المثقف بيع أوهام أو بالأحرى نقل أوهام وصفّها على نسقٍ أحمق ثم التنكّر لقيم الفرسان… هؤلاء كلما عثوا في الأرض تفاهةً جعلوني أكثر هوساً بقيم الفرسان التي اضمحلّت في زمن الميول إلى الأوهام… هم يقدمون أنفسهم باعتبارهم شُطّارا والحقيقة أنّني أرى فيهم بداية الرّدة الجنوسية…
تمرّ المحطات والمناسبات ويحرص المثقف المزيف أن لا يكون له صوت ولا موقف ولا رأي… وحده يتبرّم متعبا كما لو أنه حارب في كل الأجيال… يحرص بمنهجية بالغة القرف بأن لا يكون له صوت فيما ينفع الشعوب… ولكنه حين ينطق فهو ينطق بخردة أفكار دعستها أقدام الفكر الحرّ نفسه… من جعل الثقافوية مهنةً ساء سمته وانهار بنيانه…
المثقف إمّا أن يكون منخرطا أو لا يكون… ثمة أشياء تمر تحت طائلة أوهام الثقافة: الجبن، التحلل من المسؤولية، قلّة الوفاء، الانتهازية وأمراض أخرى..المثقف إما أن يكون منخرطا أو مريضا، وحين يصاب المثقف بخيبة أمل ترقى معه الإشكالية ويتعمّق معه الفكر ولكنه لا يفقد الذّوق والوفاء… يعتزل المثقف لكنه لا يكون مصطفا بطريقة أسوأ… يتعالى المثقف ولكن تتعالى معه النظرية لا أن تتسافل…
نحن في حاجة إلى إعادة تعريف المثقف… لأنّ التطاول على قضايا الشعوب هو فعل لا أخلاقي لا يخفف منه نحت العبارات وانتقاؤها وتهريبها من سوق خردة المفاهيم “مقصوفة الرّقبة”…
في هذه الفوضى التي اختلطت فيها الأبجديات والأوراق ودفاتر الحكماء والمجانين بات التّحدّي كبيرا… إنّ الثّقافة فعلٌ ثوريٌّ حاسمٌ ومحرجٌ وليست تموسقا ثقافويّا مخنّثا…