عبثية الوجود…
ادريس هاني
إنّ التاريخ يجري من تحت أقدامنا..وفي لحظة ما من غفلة التّاريخ يستوي الجميع..نصبح سواء..تختلط الأوراق..تنمحق الحقيقة حين يسوء الزمان وتفسد معاييره وحساباته..هذا يشبه عبثية الوجود..مقاربة ندرك أهمّيتها حين نصبح ضحايا لا نجد من يُنصفنا..حين تتساوى الأدلّة فنحن أمام إبستيمولوجيا العبث..حين تتساوى الأخلاق نكون قد خرمنا ديونطولوجيا القيم..ينتصر المنافقون..يُهدى رأس نبيّ لبغيّ من بغايا بني إسرائيل..يُقال: عليّ ومعاوية..تنزل سورة المنافقين فوق الرؤوس ومصاديقها يتبخترون في الأسواق بطيلسان، ولا من عرفهم في لحن القول..عن هذه الوجودية نتحدّث..عن هذه العبثية نتحدث..ولأنّنا لا نحسن أن نقرأ سوى جراحنا التي نخفيها عن العالم..نقرأها بلغة الألم..تراكم الخيبات ليس له سوى طريقين: العدمية أو العبثية..فأيهما الحلّ؟
كيركيغارد وألبير كامو ومحاولات أخرى لامست محنة الوجود..لنجعل الانتحار حلاّ لكنه ليس سوى ضربا إن لم نقل أقصى أشكال الهروب..إنه ضرب من العبث أيضا..الهروب في المتعالي عند كامو هو ضرب من الانتحار الميتافيزيقي..أين المفرّ ولا مفرّ لهارب حتّى أنّ المتعالي تدانى ولم يؤمّن مسافة الهروب..اللاّعقلاني نفسه محلّ لهذا القدر العبثي..ما الحلّ؟
في تقبّل العبثية..ألبير كامو..في تقبلها يكمن التجاوز..في تقبّل اللاّمعنى..واستحالة مواجهة العبثية..لا تبكي جراحك فلا يوجد لها معنى..كم هو ضيّق هذا المكان..وسيكون الحصار الملوّن قدرك لأنّك قاومت عبثية الوجود.. ولأنّ لا ميزان أمكنه قياسك..يا لمكر الأزمنة الضّائعة..أن تبكي جراحك هذا عبث..احمل ألمك وجرحك وحكايتك..أنت قدرك الأبوذرّية..عبث أن تسعى خلف الفهم والتفهّم والتّفهيم..أي معنى للمفاهيم؟
كم يبدو محزنا سعينا لوضع موازين للحقيقة..للمعرفة..للعالم..كم يبدو هذا عبثيّا..ما الفائدة وأي جدوى..مكر الحقيقة أيضا..أي معنى لأي جهد مضني؟ تاريخ من الوهم..أليس من الأفضل أن نقتدي بالسّراب؟ تحسسنا في جيوبنا بوصلاتنا المكسورة..خدعة الاتجاه ومكر البدايات وخيبات تؤسس لعبثية الوجود..لا مخرج غير تقبل عبثية الوجود..لا مناصّ من تقبّل عبثية الوجود لكي تستمرّ في الوجود بما أنّ الهروب من الوجود ليس حلاّ..
كم هو مضني أن نقبض على حقيقة الأشياء..أليست الحقيقة هي نفسها حقيقة استحالة فهم حقيقة الأشياء.. عبثية الوجود..اللاّمعنى..لنختبر إن كان هذا أمر مريح..وقد يكون أقلّ ألما من جرج سقوط سيزيف في أسفل الوادي بعد دهر من الصعود المضني..عبث، عبث، عبث..لا تستقر حقيقة واحدة..يقهرنا تلوّن المعايير..تساوي الأدلّة..انهيار هيكلة الأورغانون..هذه العبثية التي تفسّر لنا شطرا من سيرة تاريخنا..لهذا السبب كان التاريخ خطيرا وعصيّا..عليك أن تسقط وتتدحرج كسيزيف البائس..أنت مفردة في تاريخ شديد الزّيف والانحدار..الشيء المطلوب أن تهرب منه هو الأكثر إراحة لعقل صُمّم لمعاقرة المقولات..شيء ما يزحف على إيقاع هذه العبثية..لن يوقفه عقل ولا إرادات..لأنّه يجري لمستقرّ له..وها هي الفوضى قد قضمت كلّ المعاني والحروف..مخرجات تاريخ عبثي..لاحقيقة تستقيم ولا مبدأ يتعالى..المعنى ينتحر..انقبض القلب وتمرّد العقل..عبث عبث..
ادريس هاني