نحن على حافة التاريخ
ادريس هاني
ثمة خلل ما في استيعاب هذا السّنن(code) أو البنية العميقة التي يرتدّ إليها كلّ معنى..يحصل هذا في كلّ أثر نظري أو عملي..في هولوغرامية المعنى..المعنى الكلّي الذي يتولّد من المعنى الجزئي..ردّ الأشياء إلى بنياتها..في السوسيو_ليسانيات يحدث هذا: انظر رولان بارث في تعددية النّص وباختين فيما بعد اللسانيات (métalinguistique)..في محاولة لتجاوز البنيات الصلبة للغة والصوت والمعنى..بنيات دوسوسور وحتى النحو التوليدي لتشومسكي..التداوليات التي تمنح الحقل الـ”سنني” قوة تفسيرية لمسار الدلالات وتشابكها من الحقل الرمزي والإيحائي وما يشتمل عليه من مقومات الحقل التداولي كاللغة والثقافة وما شابه ذلك..التداوليات التي ازدهرت وتكاملت مع شطريها الفلسفي والسياسي والذي يجد لها في حقلها التداولي البروتستانتي: الأخلاق البروتستانتية والرأسمالية عند ماكس ويبر، حيث مجال اشتغاله الميداني داخل الاجتماع الديني الأمريكي..هناك فقط يحسن ربط جون ديوي بوليام جيمس ببيرس ليكتمل العقل التداولي البراغماتي في اللغة والدين والفلسفة وليس تداولياتنا الانتقائية التبسيطية التي لا زالت في طور التنزيل “السكولائي”( scolaire) وليس حتى السكولاستيكي(scolastique)، مقاربة أيديولوجية لا تعيد البراغماتية إلى ما قبلها في بنيات دوسوسور بل تعيدها إلى ما قبل هذا الأخير وفي تناقض مع العقل الأخلاقي والفلسفي أي تداوليات لسانية في قالب فلسفي وأخلاقي غير تداولي، وذلك لأنّ جوهر مأزقنا التاريخي هو تشظّي وحدتنا القيمية التي تكاثرت بعدد الملل والنّحل، فهي من ناحية عاجزة عن تدبير العلاقة بين المصالح والقيم على أرضية الحسم بين التيليولوجي والدونطوليولوجي، حيث بات العقل العربي منذ 14 قرن وهو يبحث عن أرضية مشتركة توافقية للبدايات التي لم تتحقق..فالنهايات في المجال العربي حيث لم تقم سنن حقيقية وأرضية دلالية مشتركة هي ذاتها البدايات..وحين نتكهّن النهايات مع البدايات المستأنفة نجد أنّنا نقع على حافّة التّاريخ..إنّ بداياتنا تؤسس لحلم بالبدايات المتوقّعة..أمّا نهاية البداية التأسيسية فهي مأساويّة..في تلك البدايات غير الحاسمة نقف على خيبات أمل..انتظارات..قوموا عنّي..أصبح النفاق عنصرا مؤسسا للفضيلة..
قيميا نحن عاجزون عن الحسم بين أخلاق ناظرة في المصالح وأخرى ناظرة في المبادئ..انتصر الغرب علينا قيميا ليس لأنّ له قيما أخرى بل لأنّ له تدبيرا مختلفا لنظام القيم..فهو يبلغ مصالحه في تصالح مع قيمه، بينما نحن ننظر إلى القيم كمبادئ تقوم على فكرة الواجب الأخلاقي لكننا نسلك إلى مصالحنا بأساليب لا أخلاقية.. ثم إنّنا عاجزون عن التّكيّف مع “سنن” العصر(بالمعنى اللّسانياتي أي الكود وجملة القواعد التي يسلك عليها عصر من العصور)، وذلك لا يتحقق إلاّ حين ندرك العلاقة بين الكوني والخاص التي تنحلّ مع هولوغرامية القيم التي وضعناها كمخرج لتدبير انتشار القيم وانتظامها بشرط وجود قيمة القيم النسبية لكل عصر من العصور، حيث اهتدينا إلى أنّ القيم تتولّد من بعضها البعض..فإذا كانت للغرب قيمة القيم وهي الحرية(دعه يعمل) والتي يقع شرطها في الفردية فما هي قيمة القيم لدينا نحن؟ إننا نواجه العالم بتسعة وتسعين قيمة تعمل طرديا وتناقضيا بينما لا توجد قيمة قيم تنتظم تحتها تلك القيم وهو شرط نجاعة القيم في عصر من العصور..
يتطوّح الفكر العربي لا سيما ما يزعم منه أنه يتناول المسألة الأخلاقية، وهو في ذلك لا يفعل جديدا ولا يضع حلاّ واقعيا بقدر ما ينتهك مزاعمه بالليل والنهار: قيمة تمحق قيمة ولا شيء يتغيّر..ذلك لأنّنا ننتقد فعل الانتقاء ونقع فيه..ننتقد القطائع ونقع فيها..ننتقد المفاضلة ونقع فيها..ننتقد التقليد ونقع فيه..في تأسيساتنا الأخلاقية نحن لاأخلاقيين..
ولقد ربطنا بين مصير القيم وبين قيم الفرسان الضامن الوحيد للحؤول دون الوقوع في قيم العبيد..ذلك لأنه لم يعد يكفي المناداة بالقيم إذا لم نضعها في نسق قيم الفرسان حيث مفتاحها هو الحسم..لم يكن نيتشه مبالغا حين قسم الأخلاق إلى أخلاق سادة وأخلاق عبيد..ولا كان مبالغا حين هجا الفضيلة..ذلك لأنّ طبيعة انتظام القيم خارج نسق قيم الفرسان ينتهي بها لأن تصبح قيم عبيد..ويُصبح حينئذ النفاق مقوما أساسيا لهذه القيم..فالفضيلة في نسق قيم العبيد تشترط النّفاق..فلا يُصار لرجّ هذه البنية الفاسدة سوى بتقويض فكرة الفضيلة نفسها..إنها الفوضى التي فرضها تجذّر نسق قيم العبيد..إنهم تفوقوا علينا قيميا من حيث تدبير منظومة القيم والتوفر على قيمة القيم، لكننا لا زلنا مختلفين حول قيمة القيم والنظام الأخلاقي وأيضا الحسم بين المبدأ والمصلحة..ثمّة إذن أزمتان خلقيتان في العالم: أزمة عالمية لم تخفف عنها القيم الغربية نفسها باعتبارها أنتجت الكثير من الفظاعات في عالم الإنسان وهناك أزمة قيم خاصة بنا لم تصل حتى إلى مستوى معضلة أخلاق الحداثة..نحن لسنا في أي تموضع تاريخاني..نحن نقع على حافّة التّاريخ..
ونعود إلى غياب السّنن في فهم الخطاب والعالم..التمكن من بنيات الأشياء..ربما رأى رولان بارث في قدرة البوذي على رؤية العالم من خلال حبة فول أمرا معجزا ومهمّا..ولدينا عليّ بن أبي طالب الذي قال: أنا النقطة تحت الباء..أي باء البسملة حيث اختزل بنية الكتاب كلها في نقطة..بل بنية العالم كله في ذات عارفة: أتزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر..إنّ ما اعتبرناه دائما عجزا تاريخيا للخروج من عصر التنزيل إلى عصر التأويل هو أنّنا حاربنا الـ”السّنن” الذي تنتظم به فكرة تعدد النصوص وتعدد المعاني..العجز عن قراءة الكلّ في الجزء والعكس..العجز عن القبض على بنية النّص وتفجير المعنى من الداخل وقراءة البيئة الكاملة للنّص..لذا أنتجنا أسوأ المعاني وأحطّ الأفكار..وهذا ما يقع في صلب ندائنا منذ سنوات للتّبنّي الحضاري والتجديد الجذري..مشروع مفتوح على ثورة الذّهن البشري..لا زال يحوم حوله سوء فهم كبير، أبرزه التعاطي معه كنوبة إنشائية ككل أشكال الإنشاء المرسل في ممارستنا العربية والإسلامية..غياب إرادة الاعتراف والشجاعة من أجل المعرفة..اختلاط أوراق المعرفة بحسابات الجهل..دعوة لا تلتقي مع سائر هذا الإنشاء المتعنتر في عُجره وبجره ولكنه لا يحرّك إلاّ خلايا الجهل المركب التي تحرس وضعيتنا الحرجة بالتشويش.. دعوة لاستنقاذ العقل من إدمان سُكنى حافّة التّاريخ..ثورة على الذّهن الذي يجعل انتظاراتنا تطول بلا جدوى..الذهن الطّارد للخلاص..فكر يُهدر فيه الكثير من الآدرينالين لأننا نفكّر بالنخاع الشوكي، لذا تطوّحنا حتى اليوم في إيجاد دليل منطقي للاستقراء لأنّنا نمارس الاستقراء بالنخاع الشوكي، وأفكار تهدر فيها غابات من الورق وحجم من الطاقة بلا جدوى..نحن في حالة هدر مستدام..إنّنا مسرفون..والمسرفون في المال كالفكر إنما هم إخوان الشياطين..
إنّها استراتيجيا لردّ الأشياء إلى بنيتها الخفية..وذلك لا يتحقّق إلاّ بالسّنن..هذا الأخير هو حلم المعرفة..هو نفسه الشرط الهارب لتحقيق حلم الظّفر بنظرية كلّ شيء..بدون ذلك سنخطئ قراءة الكون والاجتماع والحقيقة والقيم..
ادريس هاني