عن التاريخ والقيم والحضارة
ادريس هاني
منهجي في قراءة التاريخ يستحضر معضلة زينون الإيلي حول سباق أخيل والسلحفاة..عن المسافات اللانهائية التي يستحيل معها اللّحاق..مفارقة يمكن حلّها بتركها والخلوص إلى القول أنّ السابق واللاّحق كليهما أسرى اللانهاية..لكن لنتحدّث عن التفاصيل، الكرونولوجيا، المسارات المتموّجة للأحداث..أخوض في اللاّنهايات البينية: مفارقة أخرى لكنها تؤكّد على أنّ الوثيقة التّاريخية ليست مفتوحة على المعطيّات الرخوة بل تقوم على حساب التفاصيل البينية الدقيقة التي لا يخترقها الزّيف..هذه روح الرياضيات في مجال قراءة التّاريخ..أسمع بين الفينة والأخرى مقاربات تترنّح بين نظرية المؤامرة وبين نظرية الاستخفاف بالمعطيات الأدق بين الأحداث: قراءة ما بين السطور..الحفر ما بين حدث وآخر..في ماذا تفيدنا قراءة التّاريخ إذا كنا اعتبرنا أنّ هذه الأمّة تنطوي على هابتوس يجعلها خارج التّاريخ حتى حينما تتنكّر لقيمها الكبرى؟
يركّز المؤرخ على الوثيقة وهو مشدود إلى نموذج مسبق: قوانين نهوض وسقوط الأمم..وفي هذا حصلت ثورات في الأسطوريوغرافيا..نستطيع وبفضل الحوليات أن نؤرّخ للأسواق والعملة والمطبخ: الجانب الرمزي من حضارة تمنح البعد المادي القيمة القصوى التي ترهنها بحتمية صعود وانحطاط الحضارات..لكن هل يا ترى الحضارة حين لا تكون وفق هذا النمط هل ستسقط؟ لنفترض أنّ المجتمعات وقعت تحت خطّ الفقر وانحسرت الموارد الطبيعية وعاد الإنسان إلى الوسائل الأولى للعيش..لنفترض أنّ هذا حدث بالفعل، فهل يا ترى يعتبر ذلك سقوط للحضارة؟ هل إذا تقاسمنا النذرة والرفاهية بعدل واستمرت منظومة القيم تحكم عالم الإنسان وانهارت الصناعة لأسباب تتعلق بالزلازل فهل هذا يعني نهاية الحضارة؟ ولو افترضنا استمرت الوفرة والرفاهية بشروطها الرأسمالية في ظلّ انهيار قيمي كبير، فهل هذا يعني أنّ الحضارة قائمة؟
التاريخ إذن هو تاريخ موت وقيام الحضارات بحساب جدل النذرة والوفرة..من يا ترى سيسلب منّي صفة الكائن المتحضّر حتى لو انهار البنيان المادي كلّه؟..وهل كل من في حضارتنا يستفيد من هذه الرفاهية؟ هل سنسقط في مقاربة طبقية فنعتبر الذين يقعون في الهامش وتحت خط الفقر غير متحضّرين لأنهم ليس لهم سوى أن يتفرّجوا على مظاهر الرفاهية في حضارتنا المعاصرة في غياب فرص متساوية للنهوض؟
وإذن لنمنح مفهوم الحضارة معنى ماديّا صرفا ونميّزه عن الثقافة كما يفعل الألمان على الأقل..لكن هذا التمييز لا يقبل به الغرب عموما، وحتى هنتنغتون يعتبر أن الحضارة الغربية لا تختصر في الهامبرغر بل تحيل إلى الماغناكارتا والعهد العالمي لحقوق الإنسان الخ..إنّ منح الحضارة صفة مادية هو ما دعانا إلى القول بأنّ الحضارات لا تتحاور بل هي تتناسخ والأقوى منها يمحق الأضعف..لكن حين نمنحها المعنى الثقافي ونعتبر الحضور المادي عارضا بينما الحضور القيمي جوهري هنا تنقلب المعايير وهنا فقط يمكننا الحديث عن حوار بين الحضارات..وهنا فقط لا يعني أن الإخفاق في التنمية سيجعل الكائن غير متحضّر..إنّ الحضارة غير ثقافة الرّفه..إنها حضور في الزمان والمكان حضورا عارضا إن منحناها الصفة المادية فتنطبق عليه سنن التاريخ المادي في قيام الحضارات وانهيارها بحسب نفاذ طاقاتها ومواردها أو حضورا راسخا لا تغيره التجليات المادّية..علما أنّ الحضارة اليوم بمعناها المادي هي شراكة يساهم فيها كل البشر إما بالموارد البشرية أو الطبيعية..وهذه الحضارة تتعرض للاحتكار بفضل الاستعمار المباشر وغير المباشر..بفضل السيطرة على الأسواق وتدبير الأزمات والتحكم بالجغرافيا السياسية للعالم..من دون كل هذه الإجراءات الإمبريالية يمكننا توقع سقوط الحضارة المادية في الغرب وحينئذ لن نتحدث إلاّ عن ثقافات..
ادريس هاني:3/3/2019