نورالدين إسكندر
تسطع هذه الأيام كلمة “سيدر” بوصفها المنقذ من الضلال في كل جملة من عبارات النقاش السياسي المفتوح في البلاد، بشأن وجهة الاقتصاد والحكم خلال المرحلة المقبلة. وبشأن الخطوات المتوجب اتباعها للخروج من المأزق الكبير الذي وقعت به بعد تجاوز الدين العام 84 مليار دولار، وتخطي العجز إلى الناتج الإجمالي عتبة 11 مليار ليرة أي ما يقارب 7 مليار دولار سنوياً.
الحكومة اللبنانية الحالية تراهن على نتائج مؤتمر “سيدر” الذي عقد في باريس العام الماضي، ويتمحور النقاش السياسي حول الشروط التي تفرضها دول “سيدر” مقابل القروض والديون تحت مسمى “الدول المانحة” في المؤتمر على لبنان. بينما يقول معارضوها إنها لا تعدو عن كونها آلية قديمة ــ جديدة تمتطي الأزمة لتبيع مقدّرات الدولة إلى القطاع الخاص من جهة، وإغراق الدولة في المزيد من الديون من جهة ثانية، ما يزيد من أعباء الدين العام ويمكّن “الجهات المانحة” بمزيد من التحكم أكثر في القرار السياسي اللبناني مستقبلاً، فضلاً عن الحياة الاقتصادية في البلاد.
وفي جولةٍ سريعة على قروض الدول التي أعرب عنها مؤتمر “سيدر”، يمكن رصد تركيز هذه الدول على ناحيتين أساسيتين هي: إجراء إصلاحات عاجلة في المالية العامة للدولة، وضمان صرف الأموال وفق الشروط التي وضعتها كل دولة من الدول الدائنة، وهي كالتالي:
رصدت فرنسا في المؤتمر قروضاً للبنان بقيمة 492 مليون دولار، وهي إذ تتظاهر بالرغبة بالحفاظ على دور الدولة في تقديم الخدمات العامة، تضع من جهة ثانية شروطاً تأخذ البلاد باتجاه الخوصصة، ولا سيما خوصصة القطاع العام كقطاع الاتصالات الذي يسمى “نفط لبنان” نظراً لكبر حجم العائدات المتأتية منه للدولة، والذي عين رئيس الحكومة سعد الحريري الوزير محمد شقير على رأس هذا القطاع، وهو من أشد الدعاة إلى خوصصة قطاعات الدولة. وفي هذا الشأن قال وزير الخارجية الفرنسية جان إيف لو دريان عقب المؤتمر إن الشروط المفروضة تنسجم “مع التشخيص الذي وضعه صندوق النقد الدولي والبنك الدولي”، فيما تحدث وزير الاقتصاد الفرنسي برونو لو مير عن “أولوية إشراك القطاع الخاص في قطاعات “الكهرباء والنقل والمياه ومعالجة النفايات”.
البنك الدولي قدّم من جهته وعوداً بقيمة 4 مليارات دولار وفق أهداف مختلفة، بينها مليار كانت مرصودة مسبقاً ضمن برنامج دعم اللاجئين السوريين. ومثل البنك الدولي جاءت شروط الاتحاد الأوروبي على لبنان لإقراضه 12 مليون دولار كقروض ميسرة على ثلاث سنوات لتسهيل الاستثمار في دول الجوار.
وفي عنوان مرتبط، تعهد الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية بـ500 مليون دولار على خمس سنوات، بشرط إقرار مجلس النواب اللبناني قرضين آخرين بقيمة 180 مليون دولار لتنفيذ مشروعات تنموية في مناطق تواجد اللاجئين السوريين، وتعزيز مشاركة القطاع الخاص.
وكمحفزٍ آخر على الخوصصة، تحدث مسؤولو البنك الأوروبي للإنشاء والتعمير عن نيتهم إقراض لبنان 1.2 مليار دولار خلال 5 سنوات، بشرط تطبيق برنامج الشراكة مع القطاع الخاص.
أما القروض التي تعهد بها البنك الإسلامي للتنمية وهي بقيمة 750 مليون دولار على مدى ست سنوات، فشروطها مرتبطة بتسريع إقرار قوانين قروض سابقة مع البنك عالقة في مجلس النواب اللبناني. وعلى غراره اشترط بنك الاستثمار الأوروبي الذي تعهد بـ985 مليون دولار كقرض لمدة سنتين، موافقة البرلمان اللبناني على قوانين القروض مطروحة أمامه، وهو ما يمكن اعتباره استثماراً لتسهيل موافقة لبنان على قروضٍ أخرى.
الولايات المتحدة بدورها اشترطت تعزيز سياسة النأي بالنفس ومساعدة اللاجئين السوريين لإقراض لبنان حوالى 115 مليون دولار، فيما اشترطت إيطاليا إشراك القطاع الخاص لإقراضه نحو 147 مليوناً، في حين ذهبت تركيا إلى ربط مسألة إقراضها لبنان 200 مليون دولار لمشروعات الكهرباء والنقل بأن تنفذ الأعمال شركات تركية تحظى بالديون التركية على لبنان.
ومثل الآخرين، تعهدت السويد بتقديم قروض بقيمة 200 مليون دولار، مشترطةً تنفيذ مشروعاتٍ في مناطق تواجد اللاجئين السوريين، وتعزيز المساواة بين الجنسين، وإعادة فتح السفارة السويدية لدى لبنان. ومثلها فعلت بريطانيا التي حددت مبلغ 225 مليون دولار، وقسمتها إلى 169 مليوناً كقروض ميسرة، و56 مليوناً لبرنامج الإسكان والبنية التحتية التي توفر فرص عملٍ للاجئين السوريين وللمواطنين اللبنانيين.
أما الشروط الألمانية فكانت أقل ضغطاً وأكثر إنسانية بالنسبة للبنان، حيث اشترطت ألمانيا تنفيذ مشروعات مياه وتكريرها وإعادة تدويرها لإقراض لبنان حوالى 60 مليون دولار. في حين اشترطت هولندا لإقراض لبنان 245 مليوناً خلال أربع سنوات، تخصيص جزء من هذه الأموال لمساعدة تصدير المنتجات الزراعية اللبنانية، على ما يبدو دعماً لقطاعات الإنتاج اللبنانية.
المملكة العربية السعودية وقطر لم تصرحا علناً عن شروطهما، فتعهدت الأولى بقروض بقيمة 1 مليار دولار، بينما تعهدت الثانية ب500 مليون دولار بعد انتهاء المؤتمر، وهي التي امتنعت عن تقديم أي رقم خلال المؤتمر.
في المحصلة، تركز الشروط بمعظمها على الخوصصة وعلى شروط استمرار بقاء النازحين السوريين، وتتضمن اهتماماً بخوصصة قطاعات الخدمات في الكهرباء والمياه والنقل، ورفع أسعار هذه الخدمات على المواطنين بدعوى خفض الدين العام الذي تتكلفه الدولة مقابل الخدمات وهو في قسم كبير منه نتيجة الهدر والفساد في قطاع الكهرباء على سبيل المثال لا الحصر. وفي هذا السبيل تتجه شروط القروض إلى تشجيع مشاريع توليد الطاقة بالشراكة مع القطاع الخاص وإقرار قانون المياه الذي يفتح القطاع أمام الاستثمار الخاص، وخفض الإنفاق بنسبة 5% ووقف التوظيف العام وإعادة النظر بنظام التقاعد لموظفي القطاع العام. وزيادة الإيرادات بالنسبة نفسها لخفض الإنفاق عبر تحسين التحصيل الضريبي وفرض إجراءات ضريبية جديدة، وتعديل النظام الجمركي بما يؤمن سهولة أكبر لدخول وخروج السلع من لبنان، فضلاً عن الاعتماد على التحكيم الدولي، وتوقيع مراسيم الخوصصة والشراكات مع القطاع الخاص، وتحديث قانون المشتريات العامّة.
الشروط القاسية قد تأخذ الاقتصاد اللبناني باتجاه أكثر عدائية لمحدودي الدخل من اللبنانيين، بينما تبذل الإدارة المالية للدولة جهوداً لإشراك القطاعات الأكثر ربحاً كالقطاع المصرفي في تحمل الأعباء الكبيرة التي تعاني منها البلاد، وبين هذه الجهود وتلك الشروط، معركة لا توازن فيها، الأمر الذي يهدد مصالح الطبقات الدنيا من اللبنانيين.