هزيمةٌ ولّدت نصراً.. وانتصارٌ سبّب حروباً أهلية!
صبحي غندور*
يُرجِع بعض العرب سلبيات أوضاعهم الراهنة إلى هزيمة 5 يونيو/حزيران عام 1967، رغم مرور أكثر من نصف قرن من الزمن على حدوثها، بينما الواقع العربي الراهن هو نتاج تدهورٍ متسلسل تعيشه المنطقة العربية منذ اختار الرئيس المصري الراحل أنور السادات السير في المشروع الأميركي/الإسرائيلي، الذي وضعه هنري كيسنجر بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، في ظلّ إدارة كسينجر للسياسة الأميركية الخارجية. فمشروع كيسنجر مع مصر/السادات كان حلقةً في سلسلة مترابطة أوّلها إخراج مصر من دائرة الصراع مع إسرائيل، وآخرها تعطيل كلّ نتائج حرب عام 1973 الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وذلك من خلال إشعال الحروب العربية/العربية وتوريط أكثر من طرفٍ عربي فيها لسنواتٍ عديدة.
وإذا كان أنور السادات قد دفع بمصر في أواخر السبعينات إلى سلامٍ منفرد وناقص ما كان يجب أن يفعله، وأدّى بذلك إلى اختلالٍ وتدهور في الوضع العربي.. فإنّ صدام حسين أيضاً دفع بالعراق في حقبة الثمانينات وفي مطلع التسعينات إلى حروبٍ ما كان يجب أن تحصل (الحرب مع إيران ثمّ غزو الكويت)، وما كان يمكن أن يقوم بها لولا الاختلال الذي حصل في الجسم العربي نتيجة سياسة أنور السادات وغياب دور مصر الفاعل.
أيضاً، لولا هذه السياسات الخاطئة في “السلم والحرب” من قبل قيادتيْ مصر والعراق آنذاك لما حصل ما حصل من تمزّق عربي خطير وهدر وتدمير لإمكاناتٍ عربية كثيرة، وإعادة فتح أبواب المنطقة للتدخّل والوجود العسكري الأجنبي، خاصّةً بعد غزو الكويت وحرب الخليج الثانية.. ممّا أدّى لاحقاً إلى تراجعات على مستوى القضية الفلسطينية ظهرت جليّاً في “اتفاق أوسلو”، الذي نقل القضية الفلسطينية من قضية عربية إلى شأنٍ خاص بقيادة منظّمة التحرير – وليس حتّى بالشعب الفلسطيني كلّه – فانعزلت القضية الفلسطينية عن محيطها العربي، وضعفت المقاومة المشروعة ضدَّ الاحتلال الإسرائيلي، وأصبحت “السلطة الفلسطينية” مسؤولة عن تأمين أمن إسرائيل! .. إضافةً طبعاً إلى ما جرى – بسبب إتفاقية أوسلو- من تبرير لبدء العلاقات والتطبيع بين إسرائيل ودول عربية ومجموعة الدول الأفريقية والآسيوية.
وقد رافق هذه المسيرة الرسمية العربية الانحدارية قمع العديد من الأنظمة العربية لحركات المعارضة السياسية بشكلٍ عام، وانعدام البناء الدستوري السليم الذي يكفل التحوّل السياسي والاجتماعي السلمي في كلّ بلد، في ظلِّ فشل قوى المعارضة العربية في بناء نموذج سياسي صالح ليكون بديلاً أفضل من الواقع الرسمي، وارتباط بعض هذه القوى بجهات أجنبية واستخدامها للعنف المسلّح كوسيلة للتغيير. كذلك اتّسمت تلك المرحلة بتصاعد التيّار الإسلامي السياسي، دون وضوحٍ في رؤيته وفكره وبرنامج عمله السياسي البديل، وفي مناخات دولية وإقليمية و”فتاوى” تشجّع على العنف المسلّح وعلى الصراعات والإنقسامات داخل المجتمع الواحد، كما ظهر ذلك في تفاعلات الحروب الأهلية العربية طيلة السنوات الماضية.
ولم تكن هذه التداعيات السلبية في التاريخ العربي المعاصر منفصلةً عن مجرى الصراع العربي/الصهيوني الممتد لحوالي مائة عام، ولا هي أيضاً مجرّد تفاعلات داخلية عربية “الخارج” منها براء، فهي تداعياتٌ سلبية خطيرة حدثت وتحدث في المنطقة العربية وجوارها الإقليمي منذ خروج مصر من الصراع العربي/الإسرائيلي، كان منها ما هو بفعل ظروفٍ وسياسات خاطئة محلية أو بسبب تخطيطٍ وعدوانٍ خارجي، أو مزيجٌ من الحالتين معاً. فمن الحرب الأهلية اللبنانية التي اشتعلت في العام 1975، والتي تورّطت بها سوريا ومنظمة التحرير الفلسطينية ودول عربية عدّة، إلى الحرب العراقية/الإيرانية في العام 1980، إلى الغزو الإسرائيلي للبنان واحتلال بيروت في العام 1982، إلى غزو نظام صدام حسين لدولة الكويت في صيف العام 1990، إلى حرب الخليج الثانية في العام 1991، إلى مؤتمر مدريد وتوقيع اتفاقية “أوسلو” بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية في العام 1993، إلى انعكاسات هجمات سبتمبر في الولايات المتحدة عام 2001، إلى الغزو الأميركي/البريطاني للعراق في العام 2003، وإلى الحروب الإسرائيلية على لبنان والأراضي الفلسطينية المحتلّة في أكثر من محطّة زمنية خلال العقد الماضي، وصولاً إلى ما تشهده المنطقة الآن من صراعاتٍ وأزمات أمنية وسياسية وحروبٍ أهلية وتغييراتٍ في كيانات بعض الدول وحدودها، وليس فقط أنظمتها الحاكمة!.
إنّ الحقبة السياسية بعد حرب عام 1973 (وليست النتائج السياسية لحرب العام 1967) هي التي كانت الأخطر بالنسبة للعرب، لأنها أوجدت بذوراً للعديد من الأزمات القائمة الآن. فقد كانت حرب أكتوبر 1973 درساً للغرب وإسرائيل في أنّ الهزيمة العسكرية الكبرى لمصر عبد الناصر عام 1967، والقوة الإسرائيلية المتفوقة في المجالات كلّها، والعلاقة الخاصة الإسرائيلية مع واشنطن وبعض الحكومات الغربية.. هي عناصر لم تمنع حدوث “نصر أكتوبر 1973” ولا ضمان عدم استخدام النفط كسلاح في الصراع مع إسرائيل ومن يساندها، ممّا دفع بأميركا وبعض الدول الأوروبية إلى إعادة حساباتها في المنطقة، وإلى تأسيس نواة ما يُعرف اليوم باسم “مجموعة الدول الثمانية”، والتي كان تأسيسها في العام 1974 من خمس دول غربية، مرتبطاً بنتائج قرار حظر تصدير النفط إلى الغرب خلال العام 1973.
إنّ المنطقة العربية انتقلت من حال النتائج الإيجابية لحرب 1973؛ بما فيها القيمة العسكرية لعبور قناة السويس، وظهور القوة المالية والاقتصادية والسياسية للعرب آنذاك، ثمّ القرار (رقم 3379) الذي أعلنته الأمم المتحدة في العام 1975 ب”مساواة الصهيونية بالعنصرية”.. إذا بها تنتقل بعد “المعاهدات” مع إسرائيل من هذه الإيجابيات الدولية، ومن حال التضامن العربي الفعّال.. إلى إشعال الحروب العربية/العربية، والحرب العربية/الإيرانية، وتصاعد العدوان الإسرائيلي على لبنان والأراضي الفلسطينية المحتلّة وإلى فتح الأبواب العربية كلّها للمشاريع الإقليمية والدولية الساعية للهيمنة على المنطقة.
أمّا هزيمة العام 1967 فقد كانت سبباً مهمّاً لإعادة النظر في السياسة العربية لمصر الناصرية، حيث وضع جمال عبد الناصر حينها الأسس المتينة للتضامن العربي من أجل المعركة مع العدوّ الإسرائيلي، وتجلّى ذلك في قمّة الخرطوم عام 1967 وما تلاها من أولويّةٍ أعطاها ناصر لإستراتيجية إزالة آثار عدوان 1967، وإسقاط كل القضايا الأخرى الفرعيّة؛ بما فيها سحب القوات المصرية من اليمن، والتصالح مع الدول العربية كلّها، والسعي لتوظيف كلّ طاقات الأمّة من أجل تحرير الأراضي المحتلة وإعادة بناء القوات المسلحة المصرية، التي قامت فعلاً بحرب الاستنزاف أولاً ثمّ بحرب عبور قناة السويس في حرب 1973.
لقد تساقطت جميع الأولويّات التي بنتها مصر- عبد الناصر ردّاً على هزيمة عام 67، فإذا بالأرض العربية بعد غياب دور مصر العربي الفاعل تتشقّق لتخرج من بين أوحالها مظاهر التفتّت الداخلي، وكذلك الصراعات المحليّة المسلّحة بأسماء دينيّة أو طائفيّة أو إثنية، ولتبدأ ظاهرة التآكل العربي الداخلي كبدايةٍ لازمة لهدف السيطرة الخارجية ولتحقيق المصالح الإسرائيلية.
إنّ القدر لم يسمح لجمال عبد الناصر أن يعيش طويلاً وأن يحصد ثمرة إعادة بنائه للقوات المسلحة المصرية وللمجتمع المصري عموماً عقب حرب العام 1967، هذه الحقبة الزمنية (1967- 1970) مهمّة جداً في التاريخ العربي المعاصر وفي تاريخ العلاقات العربية/العربية، وفي تاريخ الصراع العربي/الصهيوني. وللأسف لم يتوقّف الكثيرون عند هذه الحقبة وما حملته من أساساتٍ لم يحافَظ عليها، لا في داخل مصر ولا في المنطقة العربية عموماً.
إنّ الغضب الشديد يعتمر الآن في صدر كلِّ إنسانٍ عربيّ أينما وُجِد على ما هو عليه الحال العربي عموماً. وهذا أمرٌ جيّدٌ ومطلوب. غضبٌ عارم هو أيضاً على مهزلة مجلس الأمن والأمم المتحدة و”الوسيط الأميركي” و”غابة المجتمع الدولي”، حيث لم يتمّ إجبار إسرائيل على إنهاء احتلالها للقدس وللأراضي الفلسطينية ولهضبة الجولان السورية رغم مرور أكثر من نصف قرن من الزمن على ذلك.
يتألّم العرب اليوم من وجع سياسات جرت منذ توقيع المعاهدة المصرية مع إسرائيل، ومن تهميشٍ حصل لدور مصر العربي، لكنْ مهما كانت تداعيات الصراع مع إسرائيل الآن سيّئة وبالغة التعقيد، خاصة في ظل الدعم المطلق من الرئيس الأميركي ترامب لأجندة اليمين الإسرائيلي المتطرف، ومهما كانت سلبيات الواقع العربي الراهن وحال الانقسام والعجز والضعف، فإنّ الإرادة الشعبية، في أكثر من بلدٍ عربيٍّ، استطاعت أن تكسر الأغلال وأن تثور ضدّ الظلم الداخلي أو تقاوم الاحتلال الإسرائيلي، وهي قادرة على أن تصحّح هذا الواقع عاجلاً أم آجلاً، طالما هي تحرص على سلامة أساليبها وتحافظ على وحدة الشعب والوطن، وتُدرك بحقّ من هو الصديق ومن هو العدوّ!.
*مدير “مركز الحوار العربي” في واشنطن