محور المقاومة ينافس أميركا بسلاحها: استخدام العقوبات الاقتصادية؟
د. عصام نعمان
كان وزير خارجية أميركا مايك بومبيو خلال زيارته السعودية قد وصف الهجوم على منشأتي أرامكو النفطية بأنه عمل حربي . لكنه خفّف لهجته بعد محادثاته مع ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد بقوله: نحن هنا لنشكّل تحالفاً يهدف إلى تحقيق السلام والتوصل إلى حلّ سلمي … هذا بالتأكيد ما يريد الرئيس ترامب منّي تحقيقه، وأتمنّى أن ترى الجمهورية الإسلامية الإيرانية الأمر بهذه الطريقة .
إيران لا ترى الأمر بهذه الطريقة. قادتها السياسيون والعسكريون حذروا ترامب من الانجرار إلى حرب شاملة في الشرق الأوسط، وأكدوا أنها ستواجه أيّ عمل عدائي بردّ ساحق .
لماذا آثر الرئيس الأميركي المضيّ في اعتماد المزيد من العقوبات الاقتصادية في مواجهة إيران ومضاعفة الجهود الديبلوماسية لتوليف تحالف عالمي لحماية تدفق النفط عبر مضيق هرمز؟
الجواب يكمن في جملة دلالات تكشّف عنها الهجوم على منشآت أرامكو ، أبرزها خمس:
أولاها، انّ إدانة إيران رسمياً بأنها مدبّرة الهجوم ومنطلقه يستتبع بالضرورة الردّ على حربها بحربٍ مضادة، وهو أمر استبعده ترامب لأنه بالغ الخطورة والكلفة اقتصادياً وسياسياً. ذلك أنّ إيران قادرة على الردّ باستهداف قواعد أميركا العسكرية في المنطقة والمزيد من منشآت النفط السعودية والإماراتية ما يولّد تداعياتٍ سياسية مضرّة بترامب نفسه المنهمك في معركة ضارية للفوز بولاية رئاسية ثانية.
ثانيتها، انّ فِرقَ التحقيق الأميركية وغيرها لم تتمكن من ان تحدّد بشكل قاطع الجهة المدّبرة للهجوم والمكان الذي انطلقت منه وسائل التدمير سواء كانت طائرات مسيّرة او صواريخ باليستية.
ثالثتها، انّ الحرب على إيران قد تتطوّر الى حرب شاملة تلفّ الشرق الأوسط برمّته، وقد تؤدّي الى تدمير منشآت النفط ليس في إيران فقط بل في السعودية والإمارات وقطر والبحرين أيضاً ما يتسبّب بأزمة نقص هائل في إمدادات النفط عالمياً.
إلى ذلك، ثمة دلالات أخرى تمخّض عنها الهجوم على منشآت أرامكو حملت الولايات المتحدة وبريطانيا على التوقّف عندها ودرس مضاعفاتها وتداعياتها على حاضر الصراع ومستقبله مع إيران وحلفائها في محور المقاومة. فالهجوم، بكلّ مراحله وملابساته، تمّ بسريّة كاملة وبمنأى عن أجهزة الرصد والاستطلاع الأميركية ما يشير الى امتلاك إيران وحلفائها أجهزة سيبرانية والكترونية قادرة على إخفاء عمليات استطلاعها وإطلاق مسيّراتها وصواريخها على علوّ منخفض جداً، والقصف المركّز بسريّة تامة. كما تبيّن انّ منظومات الدفاع الجوي التي وفّرتها أميركا للسعودية إما كانت غير فعّالة او انّ مشغّيلها السعوديين لم يُحسِنوا استعمالها. كلّ ذلك يفسح في المجال للاعتقاد بأنّ في إمكان إيران وحلفائها تدمير ما تبقّى للسعودية من منشآت نفطية إذا ما اختارت الولايات المتحدة طريق الحرب للردّ على عملية تدمير منشآت أرامكو المستهدفَة مؤخراً.
أرى أن الأمر الأكثر أهمية في عملية ضرب أرامكو هو الإحاطة بالدافع الى ضرب هذا المرفق تحديداً وليس غيره من المرافق السعودية.
في هذا السياق يمكن التقدّم بتفسير جريء مفاده انّ الجهة المقتدرة التي ضربت أرامكو أرادت الإيحاء إلى السعودية والإمارات العربية المتحدة كما إلى أميركا بأنها ليست قادرة على ردّ الكيل كيلين فحسب لكنها تقصّدت عدم تصعيد حربها الدفاعية ضدّ أعدائها بدليل قيامها بضرب مرفق اقتصادي مهمّ من دون التسبّب بسفك دماء ووقوع ضحايا بشرية ما يشكّل، بحدّ ذاته، دليلاً على استعدادها للانخراط في مفاوضات لإيجاد تسوية سياسية لحرب اليمن المتمادية.
فوق ذلك، ثمة مغزى أكثر دلالة وخطورة يمكن استخلاصه من ضرب منشآت أرامكو هو قدرة إيران وحلفائها في محور المقاومة على استخدام العقوبات الاقتصادية في الردّ على الولايات المتحدة وحلفائها في الشرق الأوسط. فشركة أرامكو التي تمتلكها السعودية مرفقٌ اقتصادي ضخم وإنتاجه النفطي هائل ما يسمح باستنتاجٍ مفاده انّ استهدافه من بين الآف المرافق السعودية الحيوية انما يُقصد به استخدام صنف من صنوف العقوبات الاقتصادية شديدة الضرر من دون إلحاق أذى بالمدنيين.
قد يقول قائل: إنّ فرض عقوبات اقتصادية يجري، غالباً، دونما استخدامٍ للعنف بل انها بديل من الحرب كونها تُلحِق بالجهة التي تُفرض عليها أضراراً شديدة من دون تكبيدها ضحايا بشرية. هذا صحيح، لكن فرض العقوبات الاقتصادية بطريق الحصار البحري او الجوي هو وقف على دولٍ تمتلك أساطيل بحرية وجوية الأمر الذي يتعذّر على الدول الصغيرة وحركات المقاومة التي لا تمتلك مثل هذه الأساطيل، فماذا تراها فاعلة؟ تلجأ إلى تعويض هذا النقص بفرض صنف من العقوبات الاقتصادية قوامه تعطيل مرافق حيوية استراتيجية مع الحرص على عدم إلحاق أذى بالمدنيين. ألم يهدّد قائد المقاومة السيد حسن نصرالله إسرائيل قبل أشهر بتدمير منشآتها النفطية البحرية إذا ما تجرّأت على منع لبنان من استخراج نفطه من مكامنه في مياهه الإقليمية؟
الولايات المتحدة لن تبتئس للتدمير والخسائر اللاحقة بمنشآت أرامكو بل ستسارع الى عرض المزيد من الأسلحة المتطوّرة ومنظومات الدفاع الجوي على السعودية لتشتريها بمئات ملايين الدولارات، وستطالب الرياض بمئات ملايين إضافية كبدل حماية لأمنها كما فعلت وابتزّتها في الماضي غير البعيد.
غير انّ ثمة سبباً آخر لعدم ابتئاس أميركا. ذلك انّ احتمال تدمير المزيد من منشآت إنتاج النفط في السعودية وغيرها من الدول المنتجة نتيجةَ استمرار حرب اليمن او نتيجةَ قيام إسرائيل ، منفردةً او بالتنسيق معها، بشنّ حربٍ على إيران وتمديدها الى سائر بلدان المنطقة، ووقف إنتاج النفط وتوريده الى شتى أنحاء العالم، سيتيح للولايات المتحدة فرصة ذهبية. كيف؟
انّ أميركا باتت اليوم أكبر منتج للنفط في العالم بعد نجاحها في استخراج مقادير هائلة من النفط الصخري بكلفة معقولة، وهي لا تجد لإنتاجها أسواقاً في دول أوروبا وآسيا وأفريقيا لاعتماد هذه الدول على نفط الشرق الأوسط الأدنى كلفة. لذلك فإنّ وقف إنتاج النفط في بلدان الخليج وإيران يتيح للولايات المتحدة فرصةً لتسويق نفطها في أسواقٍ عالمية واسعة من جهة، وتتيح لها، من جهة أخرى، ممارسة ضغوط أقوى على الصين التي تشنّ عليها في الوقت الحاضر حرباً تجارية متصاعدة.
قد تبدو هذه السيناريوات بعيدة المنال، لكنها ليست فوق العقل، لا سيما إذا ظلّت قيادة أميركا بيد حاكم من طراز ترامب يدير بلاده وربما غيرها أيضاً بتغريدات متناسلة ومتناقضة آناء الليل وأطراف النهار.