الحلّ في لبنان يتعقّد ويطول المسير إليه… لماذا؟
العميد د. أمين محمد حطيط
اعتاد العرب ونظراً لقصور حكامهم وظلمهم على إطلاق نظرية المؤامرة لتبرير أيّ عمل أو ظاهرة سلبية اعتراضية يلجأ إليها الشعب أو فريق منه للمطالبة بحقوق هدرت أو رفعاً لمظالم وقعت، وباتت هذه النظرية الباب الذي يلج الحاكم إليه لممارسة القمع المفرط ضدّ الخصوم ولكمّ الأفواه وتبرير السرقات والتقصير في الحكم وخيانته لقضايا الشعب.
وهذا لا يعني انّ التآمر على حقوقنا لم يكن موجوداً وأنه ابتداع فقط من أجل أن يبرّر الحاكم قبضته الحديدية للإمساك بالسلطة ودوامها، فالتآمر علينا كأمة وشعب ومنطقة أمر ثابت وأكيد، ويكفي ان نعود قرناً من الزمن ونقف على مؤامرات لا زالت تطيح بحقوقنا منذ معاهدة سايكس بيكو الفرنسية – البريطانية التي قسّمت بلادنا بين الدولتين إلى «وعد بلفور» الذي منح فلسطين لليهود، وصولاً إلى ما يُحكى اليوم عن «صفقة القرن» التي تجهز على ما تبقى لنا من حقوق لتعطى بكاملها لليهود وليثبت المشروع الصهيوني في المنطقة.
فالمؤامرة ليست امراً مبتدعاً بل هي حقيقة قائمة لا زلنا نعاني من تداعياتها، لكن التوسّع في ميدانها وإسقاطها على حياتنا كلها بات امراً لا يمكن قبوله. فما دخل المؤامرة في مسائلنا الحياتية والمعيشية التي لا دخل للخارج فيها؟ وما شأن المؤامرة بمسألة مثل جمع النفايات أو تأمين المحروقات أو ترقيع الطرق أو تأمين الكهرباء. فهذه المجالات هي من صنع الحاكم الذي قصّر أو سرق أموال الشعب ونمّى ثرواته بدل ان يؤمّن للشعب مصالحه وحقوقه. وهنا يكون مثل هذا الحاكم الفاسد فرصة للخارج ومنفذاً له إلى داخل البلاد ويتحوّل إلى أداة بيده لينفذ «المؤامرة» انْ وُجدت ويشحذ سيف السلطة على الشعب لينهب حقوقه ويفقره.
وهذا ما حصل في لبنان في العقود الثلاثة الأخيرة التي جاءت إلى الحكم فيه طبقة سياسية أنتجها اتفاق الطائف ووعدت لبنان بعد ان استتبّ لها الحكم في خريف العام 1992، وعدت بـ ربيع لبنان» وشكلت حكومة وصفها أحدهم بانها «أقوى من الدولار»، وانطلقت في مشروع بناء لبنان بأموال الدين الذي تراكم وتضخم إلى 100 مليار اليوم بعد ان كان ملياراً واحداً أو أقل عندما تولت تلك الحكومة السلطة في العام 1992.
وعلى ذمة خبراء الاقتصاد والمال والإعمار، فإنّ المليارات المئة تلك أنفقت في لبنان بمعدل 13 مليار دولار لصالح الدولة أما المتبقي فقد ذهب إلى جيوب متولي السلطة نهباً وسرقة وإلى خزائن بيوت المال فوائد وخدمة للدين في أفظع عملية إفقار ونهب شهدها لبنان منذ وجوده. وقد رافق هذا الأمر حديث وصف يومها بـ «نظرية المؤامرة» مفاده انّ متولي السلطة اتفق مع الخارج على إغراق لبنان بالدين من أجل المقايضة عندما يعجز لبنان عن الوفاء، المقايضة مع توطين الفلسطينيين خدمة للمشروع الصهيوني. قيل هذا الكلام منذ 20 عاماً تقريباً ويعود الحديث اليوم ليسترجع ولكن مع بعض الأدلة الحسية والوقائع التي تقرّبه من التصديق. فأين الحقيقة هنا؟
منذ نيّف وأسابيع ثلاثة انفجر الوضع الشعبي اللبناني نتيجة الحالة الاقتصادية المزرية التي بلغها لبنان مع تدنٍّ مرعب في كفاءة بنيته التحتية، وعجز عن متطلبات الحياة، مترافق مع ارتفاع معدل الضرائب الذي سلّ سيفه على رقاب الفقراء، وهو انفجار حدث كردة فعل منطقية يقوم بها جائع وفقير ضدّ من أفقره وجوَّعه وليقول له كفى ظلماً ونهباً. وبالتالي انّ واقع لبنان يقدّم المبرّرات الكافية لانطلاق هذا الحراك الشعبي الذي بدأ في لبنان في 17 10 2019. وطبعاً هنا يكون مرفوضاً القول بأنّ الشعب تحرك بإملاء خارجي، فهذا القول فيه إهانة لشعب يطلب حقه وهو ليس أداة بيد الخارج ولم تحرّكه إلا آلامه، فسعى إلى رفع الحرمان عنه وليس لمنطق المؤامرة هنا أيّ محلّ، فالشعب تألّم فخرج فصرخ فطالب بحقوقه وكلّ قول آخر هو كلام مردود على أصحابه جملة وتفصيلاً.
ولكن المسألة لا تقارب حصراً من صورتها الأخيرة أو في مرحلتها الأخيرة فقط، بل علينا الإحاطة بالموضوع من كلّ الجوانب والمتعلقات، إذ لسنا وحدنا في هذا العالم، وهنا علينا ان نسأل أولاً من الذي أوصل الحال إلى ما وصل إليه ومن الذي تكمن مصلحته في استثمار هذه الوضع السيّئ الذي يتخبّط الشعب فيه؟
وننطلق من مسلّمة أكيدة هي انّ الشعب في حراكه محقّ وبكلّ عمق وصدق في مطالبه، لا بل نسأل لماذا تأخر الشعب حتى الآن حتى خرج؟ وبعد ذلك نتابع البحث والدرس والتحليل لنحدّد من أنتج هذا الواقع ومن استدرج إليه ومن ينمّي الفساد ومن يستثمر فيه. فهذه أمور لا يمكن إهمالها إذا كنا نريد الحقيقة، وهنا نصل إلى التمييز بين منتج لبيئة الفقر والجوع والعوز والمستثمر فيها، ثم المتضرّر من هذه البيئة والرافض لها. ما يقودنا إلى تحديد الأطراف الثلاثة وكيفية التعامل معها كالتالي:
1 ـ الطرف المنتج لبيئة الظلم والحرمان: وهو طرف داخلي تولى السلطة ونهب المال العام. وهذا هو العامل الداخلي في الأزمة الحلّ لا يكون إلا بإقصائه عن الحكم أولاً بالغاً ما بلغت قاعدته الشعبية ثم سوْقه لقضاء نزيه ثم استعادة الأموال منه.
2 ـ الطرف المتضرّر وهو من تلقى ويلات جرائم الأول ووصل إلى حالة البؤس والانهيار الذي دفعه إلى الشارع وهو محق في طلباته ويجب دعمه فيها والوقوف معه حتى تلبيتها لا بل ويجب حمايته في مسيرته المطلبية المشروعة وتأمين حقوقه بالقدر المتاح مرحلياً وفقاً لخطة واضحة ناجعة.
3 ـ الطرف المستثمر في الوضع المأساوي وهنا ومن دون الخوض في التحليل والتفصيل نجده مباشرة متمثلاً بالخارج الذي يريد تصفية الحساب مع أطراف في لبنان خدمة لمخططات إقليمية وأيضاً ومن جميل الصدف نجد انّ هذا الطرف قد كشف عن وجهه وعبّر بوضوح عن وجهة الاستثمار في لبنان. ونتوقف هنا عند موقفي أميركا وأوروبا حيث عبّر في الأول وزير خارجية أميركا بومبيو عن «تمنياته» بان «ينجح الشعب اللبناني عبر حراكه القائم، في التخلص من النفوذ الإيراني وطرد إيران واذرعها خارج لبنان»، أما الاتحاد الأوروبي فقد دعا لبنان إلى الاستفادة مما يجري فيه الآن و»استيعاب النازحين واللاجئين يعني السوريين والفلسطينيين في المجتمع اللبناني ومنحهم حق العمل فيه»… أي تنفيذ الخطوة نحو التوطين.
وفضلاً عن هذه المواقف الصريحة العلنية التي تحوّل الحراك والميدان اللبناني إلى مسرح لتصفية حسابات وحلول دولية، فإنّ أثر اليد الخارجية في الضغط على المجتمع اللبناني لم يعد خفياً خاصة من خلال الحرب الاقتصادية التي تشنّ تحت عنوان معاقبة حزب الله فتأتي النتيجة معاقبة لبنان ويتفلّت حزب الله من معظم مفاعيل هذه العقوبات لأنه استبق التدابير الكيدية الأميركية بإنشاء منظومة مالية ذاتية منفصلة عن المنظومة المالية التي تسيطر عليها أميركا. كما لا يمكن إغفال دور اليد الأجنبية في استقالة الحكومة ومنع تشكيل حكومة ينضمّ إليها ممثلون عن المقاومة ومؤيديها رغم انّ لهؤلاء أكثرية مطلقة في المجلس النيابي تمكّنهم من تشكيل حكومة بمفردهم.
وعليه نقول إنّ أزمة لبنان الحالية هي نتيجة وتحت تأثير عاملين: داخلي أطلقها وخارجي ساعد في إنتاج بيئتها ويتحضّر للاستثمار فيها، أما الحلّ فقد كان قبل انفجار الحراك متجسّداً في معالجة العامل الداخلي أيّ بتأمين حقوق المواطنين واحتياجاتهم المعيشة ومحاربة الفساد وبناء الدولة العادلة، أما اليوم فقد بدأ الحلّ يتعقد بسبب العامل الخارجي الذي يذرّ بقرنه تصاعدياً، ما يعني انّ الوقت يلعب لغير صالح لبنان عامة والعامل الداخلي الذي سيتراجع صوته ومصالحه، مع تقدّم تأثير العامل الخارجي وفعاليته ومن مصلحة الخارج ان يتعقد الأمر ويطول المسار حتى يشتدّ إمساكه بالملف، فإذا تمّ ذلك فقد نصل إلى وقت تغيب فيه المطالب المعيشية وتطرح كطبق رئيسي للحلّ الاستجابة لإملاءات الخارج التي تنهتك سيادة لبنان واستقلاله وديمغرافيته وحقه في أرضه في الجنوب براً وبحراً ومنطقة اقتصادية. ولنا في ما يجري في سورية خير مثال حيث انطلقت ما سمّيت «ثورة» أيدتها أميركا لتحقيق «الحرية والديمقراطية وأفضت اليوم إلى موقف معلن من أميركا التي تريد حصتها من النفط السوري، وموقف تركيا التي تريد السيطرة على جزء من الأرض السورية. وأخشى ان يتكرّر الأمر في لبنان مع فجر العهد النفطي فيه.
لهذا علينا ان نبحث عن حلّ يلبّي ما أمكن من طلبات الداخل ويقطع الطريق على العامل الخارجي ويمنعه من تحقيق أهدافه، بدءاً من المطلب أ المتمثل بخروج حزب الله من الحكومة لأنّ من يقبل بـ أ سيقبل بـ ي كما يقول السيد حسن نصر الله دائماً.
أستاذ جامعي ـ باحث استراتيجي