دروس الجولاني من شرق الفرات… الاستعداد لمرحلة فقدان “التمكين”
عبدالله سليمان علي
يؤكد مصدر من داخل “جبهة النصرة” لـ “180” أن أبا محمد الجولاني والحلقة الضيقة المحيطة به كانوا يراقبون عن كثب أدق التفاصيل التي تجري في شرق الفرات وعلى مختلف المسارات. وبينما لقي مسار العلاقة بين واشنطن و”قسد” اهتماماً خاصّاً، نتيجة ارتباطه بمسألة الدعم الخارجي التي تعتبر من أهم المسائل الخلافية بين الفصائل في منطقة إدلب لخفض التصعيد، فإن الأداء التركي في مجريات أحداث الشرق كان محل تركيز شديد لدى قيادة “النصرة” التي اعتبرت أنه سيشكل الإطار العام للتعاطي التركي مع منطقة إدلب.
وأشار المصدر إلى أن حالة من الاحباط سادت في أوساط “جبهة النصرة” وهي تراقب انتشار الجيش السوري على مساحات شاسعة من الشريط الحدودي مع تركيا، ما اعتُبر مؤشراً سيئاً على انقلاب الأولويات التركية التي لم تعد تراعي سوى مصلحة الأمن القومي التركي ولو على حساب أدواتها على الأرض. وجاءت هذه النتيجة لتصب الزيت على نار الهواجس التي كانت تشغل بال الجولاني وحاشيته في الآونة الأخيرة، وأهمها محاولة التكييف بين ضرورة التعامل بمرونة مع الاتفاقات الاقليمية والدولية، وتحدي عدم التفريط بثوابت الجماعة وأهدافها.
ساد الاحباط في أوساط “جبهة النصرة” وهي تراقب انتشار الجيش السوري على مساحات شاسعة من الشريط الحدودي مع تركيا
غير أن السيناريو الماثل للعيان في شرق الفرات لا يشجع على الاستمرار في هذه المحاولة، وقد يقود قيادة “النصرة” إلى اتخاذ قرارات أكثر تشدداً.
ويشدد المصدر على أن ما أسماها “فتنة كفرتخاريم” ينبغي أن تقرأ في هذا السياق، فهي ليست مجرد خلاف على أداء زكاة محصول الزيتون، بل إنها تستبطن في داخلها كل الافرازات والتناقضات التي انفجرت في وجه الجولاني وهو يراقب تطورات شرق الفرات. فمن جهة، فإن كفرتخاريم هي منطقة خاضعة عسكرياً لانتشار مسلحين من “فيلق الشام” أحد مكونات “الجبهة الوطنية للتحرير” المدعومة من أنقرة، وهذا بحد ذاته دليل على أن جمر الخلافات وانعدام الثقة ما زال متقداً تحت رماد التهدئة الظاهرية بين الطرفين. ومن جهة ثانية، هي رسالة موجهة إلى أنقرة بشكل خاص مفادها أن “الهيئة” التي رفضت جميع المطالبات بحل نفسها والاندماج مع الفصائل الأخرى، لن تكون لقمة سائغة أمام التفاهمات التي تجريها أنقرة، سواء مع واشنطن أو مع روسيا.
وقد يكون هذا التوجه إحدى أهم النقاط المشتركة التي يمكن أن ترمم العلاقة بين “الهيئة” والفصائل القاعدية مثل “حراس الدين” و”أنصار التوحيد” و”انصار الاسلام”، لا سيما في ظل ما نشره “180” في تقرير سابق حول وجود وساطة يقودها فرع تنظيم “القاعدة” في اليمن للتقريب بين هذه الفصائل.
وما لم يقله “المصدر من داخل جبهة النصرة” تكفل بشرحه مصدر آخر ينتمي إلى “أحرار الشام” حيث قال لـ “180” إن أحداث كفرتخاريم تدل دلالة قطعية على مدى أهمية جمع المال لدى قيادة “هيئة تحرير الشام” وهذا بدوره يدل على نقطة أخرى في غاية الأهمية، وهي أن قيادة “الهيئة” باتت على يقين أن إمساكها بالأرض هو مسألة وقت فقط، لذلك فإنها تسعى جاهدة إلى استغلال حالة التمكين هذه من أجل التحضير لمرحلة ما بعد فقدانها، اي العودة إلى العمل السري كما جرى من قبل مع تنظيم “داعش”.
“هيئة تحرير الشام” باتت على يقين أن إمساكها بالأرض هو مسألة وقت، ولذلك فإنها تستعد لمرحلة فقدان “التمكين”
ورغم أن مقتل البغدادي أثار موجة من الارتياح في أوساط قيادة “جبهة النصرة” حسب ما نقل لـ “180” عدد من النشطاء الإعلاميين المقربين منها، إلا أن الهواجس الأمنية التي انبثقت عن الحادثة عكرت صفو هذه الفرحة. ودفعت بالجولاني إلى إعادة النظر في الإجراءات الخاصة بحمايته وتحديد نوعية “المقربين” الذين يسمح لهم بالاطلاع على طبيعة تنقلاته وتحركاته. ولا يمنع ذلك من أن حصيلة مقتل البغدادي في إدلب، شكّل خدمة كبيرة للجولاني وجماعته سواء شاء منفذ العملية (أميركا) ذلك أم لم يشأ. وسبب ذلك أن البغدادي لم يكن قد اختار إدلب من أجل الاستجمام، بل تسود قناعة في أوساط “جبهة النصرة” أنه كان في صدد تنفيذ خطة تقضي بقلب الطاولة على الجميع في إدلب عبر تعزيز نفوذه فيها مستغلاً حالة الصراع والفوضى.
وما زاد من حالة الارباك في أوساط “جبهة النصرة” هي الإشارات المتناقضة التي كانت –حسب اعتقادها- تصل إليها من أداء الولايات المتحدة في منطقة إدلب. ويأتي على رأس هذه الإشارات: توقف الطائرات الأميركية عن استهداف قادة “جبهة النصرة” والانشغال بدل ذلك باستهداف قيادات “حراس الدين”، ثم المواقف الأميركية المتتالية حول رفض قيام الجيش السوري بأية عملية عسكرية واسعة في إدلب. لكن في المقابل، ينشغل الجولاني كثيراً في تركيز الولايات المتحدة على استهداف قادة التنظيمات مثل أبي بكر البغدادي، ووضع جائزة مالية لمن يدلي بمعلومات عن أبي همام الشامي قائد “حراس الدين”، والأنكى أن برنامج “مكافآت من أجل العدالة” الذي تديره الخارجية الأميركية عمد بعد مقتل البغدادي إلى وضع صورة الجولاني والشامي في صورة واحدة مؤكداً أنهما لن يفلتا من العقاب.
وبقدر ما تزرع بعض هذه المؤشرات بذور الطمأنينة لدى “هيئة تحرير الشام” باعتبار أنها غير مستهدفة من جهة، وأن ثمة فيتو دولي على تقدم الجيش في إدلب من جهة ثانية، فإن المؤشر الأخير من شأنه أن يثير القلق لدى الجولاني بشكل خاص خشية ان يكون على قائمة الاستهداف الشخصي ضمن خطة أميركية تسعى ربما إلى إعادة خلط أوراق الجماعات الجهادية عبر استهدف رؤوسها القيادية فقط