موفق محادين
من مظاهر إنهاء سردية اللاعبين السياسيين، الأحزاب والتيارات السياسية، تضليل المقهورين والطبقات الشعبية والمحرومين، بالعفوية المزعومة كبديلٍ للعمل السياسي والحزبي، وتحذيرهم من هذا العمل وتحويلهم إلى جسمٍ بلا رأس.
السِمات الجديدة للثورات المُلوَّنة
القاسَم المُشترك لما يُسمَّى بالثورات المُلوَّنة، هو نهاية السرديات الكبرى التي ترافقت مع الثورة الصناعية البرجوازية، والتي شكَّلت قوام الحقبة الرأسمالية.
ومن أهم هذه السرديات: الدولة القومية، السياسة، العقل، الآيديولوجيا، الحزب، والقواعد الحاكِمة التقليدية لحركة اللاعبين وتقاطعاتهم، وهناك كما هيغل وفوكوياما مَن أضاف التاريخ إلى هذه السرديات مُقدِّمة لإعلان نهايته.
وفيما تنتهي هذه السرديات موضوعياً، لصالح أشكال ما بعد رأسمالية وما بعد حداثية شمال العالم الرأسمالي، ثمة عمل مُدبَّر لإنهائها جنوباً بأشكالٍ مختلفة، تُذكّرنا برواية هيرمان هسه (الكريات الزجاجية) التي تتدحرج في إطارٍ تسيطر عليه قوى شبحية، ناتجة بدورها من تداعيات الدورة الرأسمالية ومحاولاتها لتجديد نفسها.
ويُشار هنا إلى موضوع شديد الأهمية، وهو أن طرح ملفات مثل الفساد، لا يعني بالضرورة مُناهَضة الرأسمالية، بل قد يكون جزءاً من آليات تجديد نفسها وخاصة في الجنوب العالمي، الذي يعاني من تبديدٍ كبيرٍ للتراكُم الرأسمالي بسبب الفساد.
وبالتالي فلا معنى لطرح الفساد وملفّاته إذا لم يكن في إطار مواجهة الرأسمالية وفكّ التبعية معها، ما يستدعي أيضاً القول إنه ليست كل دعوة لفتح هذه الملفّات دعوة بريئة، إلا إذا ارتبطت بالموقف من الرأسمالية وخطابها الليبرالي المُغلَّف بنشاطات الـNGOs والتحالف المدني.
إلى ذلك، من السرديات المشوّهة أصلاً في الجنوب والمطلوب تحطيمها ونهايتها عبر الثورات المُلوَّنة وفلاسفتها اليهود أمثال بيتر أكرمان وشارب وسوروس وغيرهم:
1- إنهاء سرديّة السياسة، واستبدالها بحكومات التكنوقراط، وتعني نهاية السياسة في الجنوب تحديداً إحالتها إلى الشمال وخاصة الولايات المتحدة الأميركية، كمُحتكِرٍ لها ولكل حقلٍ يرتبط بها مثل الأمن والخارجية والتخطيط.
وهو ما يظهر اليوم في أكثر من شارعٍ عربي يطالب برحيل السياسيين والأحزاب، مُتجاهِلاً أن المجتمع السياسي هو مجتمع الدولة وأن القوى الرئيسة في المجتمع المدني هي القوى الحزبية.
2- إنهاء سردية الدولة ومؤسّساتها كبدائل الثورات الصناعية البرجوازية في العالم الثالث، مثل القطاع العام، وذلك عبر آليات التفكيك المختلفة وأبرزها البنك الدولي وفيدراليات اللامركزية.
ويُشار هنا إلى دستور نوح فيلدمان الذي فُرِض على العراق باسم دستور بريمر والذي حوَّل العراق من دولةٍ مركزيةٍ إلى لامركزيات حكومية مُتناثِرة، وقد قامت أوساط من المعارضة السورية باستنساخه ولا تزال تحاول تسويقه حتى الآن.
3- إنهاء سردية الآيديولوجيا بدلاً من تطويرها بأبعادٍ معرفيةٍ، وتسويق ما يُعرَف بالقوى البرامجية بديلاً لها.
4- كما نهاية الحكومات السياسية لصالح حكومات التكنوقراط، ثمة حرب على سردية العقل، الذي ارتبط بنشأة الدولة الحديثة عند ماكس فيبر وهيغل لصالح ما أسمته مدرسة فرانكفورت النقدية بالعقل التقني أو التكنوقراطي.
ولعلّ الأخطر هنا، هو أن الحرب على العقل جنوباً، تأخذ طابع الإنحطاط به إلى مستوى الغرائِز المُسوَّقة باسم العفوية.
وإذا كان الجمهور في البلدان الصناعية بات أسير اللاعقل التقني، فإن الجمهور جنوباً وبسبب الطابع الكولونيالي المشوّه للتطوّر الإجتماعي والثقافي، قابل للتفسّخ وقطع طريق التطوّر المدني الأولي لصالح بيئة أكثر تخلّفاً لا بيئة مدنية.
5- نهاية اللاعبين السياسيين، واستبدالهم بالشبكاتيين ونُشطاء التواصُل الإجتماعي والمُغرّدين المُختلفين، ومنظمات الـNGOs التي تسوِّق نفسها كعنوانٍ للمجتمع والتحالف المدني.
كما يُلاحَظ إعادة هيكلة بعض أوساط القوميين واليسار السابق وتحويلهم إلى يسارٍ إجتماعي متورِّط بالتمويل الأجنبي بأشكاله المختلفة.
ومن مظاهر إنهاء سردية اللاعبين السياسيين، الأحزاب والتيارات السياسية، تضليل المقهورين والطبقات الشعبية والمحرومين، بالعفوية المزعومة كبديلٍ للعمل السياسي والحزبي، وتحذيرهم من هذا العمل وتحويلهم إلى جسمٍ بلا رأس مُقدّمة لتركيب رأس التحالف المدني وجماعات الـNGOs على هذا الجسم.
6- نهاية الميديا السابقة، سواء كانت مُستزلِمة للقوى السائِدة أو ضمن قواعد الإعلام والبثّ التقليدية، وتحويلها إلى ميديا شريكة في صنيعة الأحداث وتوجيهها ضمن الخطاب الليبرالي.
تحالف وطني طبقي لا تحالف مدني ليبرالي
في المقابل، فإن المطلوب استعادة شعار الثورة الوطنية الديمقراطية ومرحلة التحرّر الوطني– الإجتماعي، التي تربط بين الصراع الطَبَقي الداخلي ضد تحالف الفساد والتبعيّة والقهر والاستغلال، وبين الصراع الوطني ضد تحالف الإمبرياليين والصهاينة والرجعيين، وبين الصراع من أجل الديمقراطية والحريات السياسية.
ذلك أن عزل هذه المهام عن بعضها أو التركيز على واحدةٍ منها، لا يخدم أية قضية من قضايا ومهام التحرّر الوطني الإجتماعي، فالتركيز على الحريات السياسية وحدها يصبّ في خدمة جماعات التحالف المدني الـ NGOs التي تعتاش في غالبيّتها الساحِقة على المتروبولات الرأسمالية، والتركيز على القضايا الوطنية لوحدها يكشف ظهر القاعدة الشعبية ويضعها فريسة للحيتان والفساد، والتركيز على القضايا الإجتماعية وعزلها عن التحديات الوطنية، يُبدِّد كل جهد من أجل هذه القضايا نفسها، وبالمثل وضع القضايا الإجتماعية أو الديمقراطية في مواجهة العمل السياسي.