حسني محلي
يبقى الضوء مُسلطاً على حسابات تل أبيب وداعميها السابقين واللاحقين، لا سيما عندما يتعلّق الأمر باحتمالات المواجهة الحقيقية عاجِلاً أم آجِلًا مع حزب الله.
مع استمرار الحرب العالمية الأولى التي كان واضحاً أن الدولة العثمانية ستخسرها، كانت الدولتان الاستعماريتان بريطانيا وفرنسا تُخطّطان معاً لتقاسُم المنطقة العربية من دون الاكتراث بالأرمن الذين تمّ تهجيرهم عام 1915 من أراضيهم داخل حدود الدولة العثمانية إلى سوريا والعراق، وكانتا آنذاك تحت الحُكم العثماني.
تجاهلت الدولتان المذكورتان الكرد عندما رسمتا خرائط الدول بالمسطرة في اتفاقية سايكس بيكو 1916 والتي لحق بها وعد بلفور 1917 فأعطى فلسطين ليهود العالم كوطنٍ قومي أي ديني.
وجاءت هزيمة الدولة العثمانية في الحرب واستسلامها لتدفع الدول المُنتصِرة، وهي فرنسا وبريطانيا واليونان وإيطاليا، إلى احتلال تركيا بحدودها الحالية، فأعلن مصطفى كمال أتاتورك حرب الاستقلال التي سعت الدول المذكورة إلى عرقلتها بالتنسيق والتعاون مع السلطان وحيد الدين الذي أجبره البريطانيون على التوقيع على اتفاقية سيفر في آب/ أغسطس 1920. الاتفاقية كانت تهدف إلى إقامة دولة كردية وأخرى أرمنية جنوب وشمال شرق تركيا الحالية. وجاء انتصار حركة التحرّر التركية لينسف مُخطّطات الغرب في اتفاقية سيفر حيث حدَّدت اتفاقية لوزان لعام 1923 حدود الجمهورية التركية الحالية التي تخلّت عام 1925 عن الموصل للعراق وكان تحت الانتداب البريطاني، فيما تخلَّت فرنسا التي كانت تحتل سوريا عن لواء إسكندرون لتركيا عام 1938.
وجاء تراجُع بريطانيا وفرنسا عن اتفاقية سيفر وحقوق الكرد في إطار خطةٍ كان الهدف منها إلهاء العرب والأتراك ومعهم الفرس كمسلمين بحروبهم “القومية” مع الكرد، ليساعد ذلك الدولتين المذكورتين على تطبيق مشروعهما الجهنمي في نقل مئات الآلاف من يهود العالم إلى فلسطين. ساهم ذلك لاحقاً في إقامة الدولة العبرية “إسرائيل” وترسيخ كيانها عندما كانت ومازالت القوميات الأربع تقاتل بعضها البعض في تركيا وسوريا والعراق وإيران.
وكانت الصراعات والحروب العرقية بين القوميات الأربع وفق المُخطّط الاستعماري أكثر “ربحاً” مادياً وسياسياً بالنسبة إلى الدول الاستعمارية التي لو كانت أعطت آنذاك الكرد دولتهم قبل مئة عام لكانت المنطقة الآن في وضعٍ أفضل بكثير مما هي عليه الآن بسبب الحروب التي عاشتها خلال الفترة الماضية ومعظمها بسبب الكرد بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشر.
إلا أن الدول الاستعمارية تجاهلت حقوق الكرد وأرادت للدول الأربع أن تلتهي بهم طالما أن أطراف هذا الصراع القومي كثيرة مقابل طرفين فقط في الصراع العربي-الإسرائيلي، وهو من أولويات الدول الاستعمارية ولاحقاً الإمبريالية التي نجحت في كل مُخطّطاتها الخاصة بالمنطقة العربية التي ما زالت مُنشغِلة بما أراد الغرب لها أن تنشغل به، أي الكرد. ونجح الغرب في مُخطّطاته الاستفزازية الذكيّة لمنع أنظمة الدول الأربع من المصالحة معهم.
وقد شكّل الكرد خلال المئة سنة الماضية الهمّ الأكبر لدول وشعوب المنطقة، وهي سوريا والعراق وتركيا وإيران، بانعكاسات ذلك على الدول المجاورة وأهمها لبنان ومصر وليبيا والأردن، وهي جميعاً الطرف المباشر في الصراع – العربي الإسرائيلي.
التواطؤ السعودي والخليجي منذ البداية ومن بعده المصري والأردني في كامب ديفيد ووادي عربة، ساعد الغرب وبالتالي إسرائيل على ما تمّ الاتفاق عليه في سايكس بيكو وسيفر بشقّه الكردي مع تجاهل الأرمن حتى لا يتنافسوا مع اليهود على كسب اهتمام وتعاطف الغرب المسيحي.
ويُعدّ الدعم الإسرائيلي لحركات التمرّد الكردية في العراق في الخمسينات وحتى السبعينات والآن لوحدات حماية الشعب الكردية بذراعها السورية والتركية مؤشراً مهماً على اتفاق الأهداف بالنسبة إلى الغرب الذي نجح في إلهاء العرب بحروبهم مع إسرائيل عن قضاياهم الأخرى.
وجاء “الربيع العربي” حتى ينشغل العرب هذه المرة بحروبهم العربية-العربية وكذلك العربية-الكردية كما هي الحال في سوريا والعراق. ساعد ذلك تل أبيب على إعلان القدس عاصمة ليهود العالم وضمّها ومعها الجولان والآن الضفة الغربية إلى الدولة العبرية التي هدَّدتها أنقرة أكثر من مرة من دون أن تفكّر في تنفيذ أية خطوة عملية ضدّها كما فعلت في سوريا.
ومع اقتراب الذكرى المئوية لاتفاقية سيفر، ستُرشّح كل هذه المُعطيات بذكرياتها التاريخية المنطقة لمزيدٍ من الصراعات العربية- العربية، والعربية-التركية، وأخيراً العربية والتركية والفارسية مع الكرد ليكون المستفيد الأول والأخير من كل ذلك اليهود الذين لم يكونوا يمتلكون في فلسطين أكثر من 1% من الأرض فاستولوا على القدس بعد 70 عاماً من قيام الدولة العبرية.
ويبدو واضحاً أن هذه الدولة تستعدّ الآن للمئوية الثانية التي قد تساعدها على تحقيق حلمها الأكبر في إقامة دولة “إسرائيل الكبرى” من النيل إلى الفرات، إن لم يكن جغرافياً فعلى الأقل نفسياً، وذلك بعد أن تجعل من شعوب المنطقة من العرب والكرد والترك والفرس عبيداً يستسلمون للفكر الصهيوني الاستعلائي دينياً.
لهذا استنفرت “إسرائيل”، ومعها مَن ساهم بإنشائها قبل 100 عام، كل إمكانياتها بغية الاستمرار في دعم التمرّد في سوريا والعراق وتركيا وإيران بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشر، لكن بحنكةٍ وذكاء. من شأن ذلك أن يساعدها في التخلّص من أعدائها الحقيقيين في لبنان وسوريا والعراق، الأمر الذي يُفسّر استمرار الأزمة السورية وتأخير حلّها قدر المستطاع، كما يُفسّر الاستفزازات الخطيرة داخل الحراكات الشعبية في لبنان والعراق والآن إيران بعد تدمير ليبيا واليمن واستبعاد مصر من ساحة الصراع العربي-الصهيوني.
ويبقى الضوء مُسلطاً على حسابات تل أبيب وداعميها السابقين واللاحقين، لا سيما عندما يتعلّق الأمر باحتمالات المواجهة الحقيقية عاجلاً أم آجلًا مع حزب الله. ويعرف الجميع أن هذا الحزب بعقيدته النضالية كان ومازال الهمّ الحقيقي الأكبر بالنسبة إلى “إسرائيل” ومَن معها في الداخل والخارج.
فلولا حزب الله وحلفائه لكانت القضية انتهت في الذكرى المئوية لسايكس بيكو ووعد بلفور من دون انتظار الذكرى المئوية لاتفاقية سيفر بشقها الكردي فقط. وسيبقى الكرد حتى الموعد الجديد عنصراً أساسياً في معادلات الغرب الخبيثة إلى أن يحقّق اليهود كل أحلامهم قبل أن يصحوا على أنفسهم وإذ بصلاح الدين يُصلّي في الأقصى الشريف، وهو يؤمّ المُصلّين من العرب والترك والفرس والكرد ودعاؤهم واحد، وحينها ستدقّ أجراس الكنائس المشرقية بأكملها من أجل السلام!.