ليس غياب القيادة عفويا
غالب قنديل
منذ الأيام الأولى للانتفاضة الشعبية سرت في الساحات موجة إنكار شاملة لوجود قيادة تحدد الأولويات وتقرر الشعارات والخطوات العملية وبذلك توفر وعاء مناسب لتمويه هوية الأحزاب الكبرى المشاركة في الحشد والتجميع وهي شريكة في السلطة السياسية وكانت منذ البداية تسعى لركوب الحراك بهدف تحسين شروطها المتعلقة بالوضع الحكومي وقد تبين أن الصيغة الحكومية المطروحة لم تكن ابتكارا محليا بل وصفة اميركية غربية لنموذج حكومي جرى ربط قيامه بالإفراج عن قروض سيدر الموعودة.
تبين لاحقا ان جناح النظام القائم بقواه الثلاث المعروفة أي أحزاب المستقبل والقوات اللبنانية والتقدمي الاشتراكي ورغم تكيفها مع يافطة وشعار “كلن يعني كلن” فضل التركيز على اولوية سياسية لاستثماره الفعلي في الحراك بفرض شروط التفاوض على حكومة جديدة منذ استقالة الرئيس الحريري وهو دفع التحريض نحو استهداف الرئيسين ميشال عون ونبيه بري عملا بالمشورة الأميركية التي تقضي بعزل المقاومة وتجريدها من حلفائها في المؤسسات.
وقد كان الرئيس سعد الحريري من اللحظة الأولى خارج حملات الشتائم والشيطنة التي عممتها وسائل الإعلام الناشطة في تغطية حية للأحداث على الرغم من كونه مع حزبه السياسي وفريقه الاقتصادي صانع الخيارات الاقتصادية والمالية للحكومات المتعاقبة التي واصل بها مسيرة حكومات والده الراحل وتحولت استقالته إلى مناسبة للإعلان الصريح عن انخراط حزبه ومناصريه مباشرة في الحراك الذي حمل شعار حكومة التكنوقراط غير السياسية هو نفسه ما يتمسك به الرئيس المستقيل كشرط لقبول تكليفه مجددا برئاسة الحكومة او حتى تسمية من يمثله للتكليف.
استمر إنكار وجود قيادة على الرغم من عمليات قطع الطرق التي قادتها احزاب سياسية من جناح النظام المشارك في الحراك والذي كتم ممثلوه هوياتهم الحزبية تحت تغطية واضحة وصمت من جميع مجموعات الحراك الأخرى فظهر مناصرون ومحازبون لتلك القوى بصفتهم من ممثلي الحراك الذي تغطوا به وبهويته الفضفاضة التي باتت عباءة تتسع للجمع المتناقض في طروحاته وأهدافه وهوياته العقائدية والسياسية.
إذن ليس غياب القيادة خللا فنيا ناتجا عن تنافر المجموعات والقوى المشاركة او نتيجة صعوبة الموالفة بين أطرافها فحسب بل كان نتيجة عملية منظمة ومقصودة لتجيير مشاركة بعض الجماعات من خارج احزاب السلطة وفيها خليط من الطلاب والشباب الغاضب ويساريون ووطنيون سعوا بعد طول انتظار وتأخير لتمييز انفسهم في تظاهرة عوكر استنكارا لما ادلى به جيفري فيلتمان.
حظي بعض الوطنيين واليساريين بظهور إعلامي محدود لبعض رموزهم على منابر إعلامية غير مشاركة في ترويج الحملات المواكبة للحراك من اليوم الأول وبعدما حجبتهم شاشات الحراك المشبوكة التي سخرت هواءها لتعميم صورة مسبقة الصنع عن كل ما يجري بما يخدم الأجندة السياسية الموضوعة وأتاحت تعميم الشتائم ومفردات التحريض والاستهداف وقدمت قاطعي الطرقات الحزبيين بوصفهم ثوارا.
تقنيات الإدارة من الخلف هي الأسلوب الأميركي المفضل في قيادة الثورات الملونة وتعيين شعاراتها وأهدافها ومن الواضح ان الشبكة الفعلية التي تتولى توجيه الحراك كانت حريصة على فرض تغييب الأهداف النهائية لخطة واشنطن وحصر الأهداف بتعديل التوازن السياسي داخل الحكومة تحت غطاء تخطي الأزمة الاقتصادية والمالية.
يسهل غياب القيادة طمس الغاية الفعلية من وراء كل ما يجري بعدما عطل قرارقائد المقاومة بمغادرة الساحات محاولات استدراج الاحتكاك التي نفذت اكثر من مرة عبر قطع الطرقات وكذلك بجولة البوسطة التي قصدت الجنوب بكل ما فيها ومن حولها.
يفترض البعض ان إقناع الناشطين الموزعين على ما يزيد المئة مجموعة حراكية بمناقشة برنامج وبلورة قيادة هو الحل الفعلي للمأزق الذي دخلته الانتفاضة بعد اختطافها وتحولها إلى حراك لكن تلك الأمنية تصطدم بآلة التوجيه الفعلي لعمليات الحشد والتعبئة وهي الآلة التي تتكون من خيوط تربط شبكة من القوى والجماعات التي تتصدرها احزاب السلطة التابعة للهيمنة الأميركية والمتبنية لخطة الانقلاب السياسي على نتائج الانتخابات النيابية التي نزعت منها ورقة الغالبية.
من دون اوهام تنبغي ملاحظة ان التحالفات توازنات وفي قلب الحراك معادلة لامجال فيها للمقارنة بين الأوزان والإمكانات وإذا سلمنا بوجود اجنحة فالجناح الأميركي هو القوة الفعلية المهيمنة باحزابه السياسية القديمة والمستجدة وبتشكيلاته المتعددة ومنها مجموعات الأنجيؤز بينما المستقلون والجهات غير التابعة للقوة الأميركية القابضة ليسوا سوى أقلية صغيرة ومحاصرة مع الاحترام لجميع الطموحات والنوايا الحسنة.