التحالف التركي-القَطري وحسابات إردوغان العقائدية
حسني محلي
يرى إردوغان في نفسه زعيماً للإسلام السياسي بنسخته الإخوانية باعتباره تربّى على هذا الفكر على يد زعيمه نجم الدين أربكان، قبل أن يتمرَّد عليه ويقوم بتأسيس حزب “العدالة والتنمية” عام 2001.
خلال زيارته إلى القاعدة العسكرية التركية قرب الدوحة يوم أمس (الإثنين) قال الرئيس إردوغان “إن أمن قطر جزء لا يتجزَّأ من أمن تركيا”. والقاعدة التي أسماها إردوغان بقاعدة خالد بن الوليد، وللتسمية معناها في قلب الشاعر، تم إنشاؤها هناك بعد التوتّر بين قطر وكل من السعودية والإمارات والبحرين، الدول التي أيَّدت في تموز/ يوليو 2013 انقلاب عبدالفتاح السيسي في مصر وأعلنت بعدها بعام حركة الإخوان المسلمين تنظيماً إرهابياً، فأغضبت بذلك تركيا وقطر الدولتين اللتين كانتا حليفتيّ الرئيس السوري بشّار الأسد عندما كانت الدول الثلاث المذكورة عدواً له.
إلا أن هذه التناقُضات لم تمنع هذه الدول مُجتمعة من التحالف بعد 2011 “لتتهاوَش على الطريدة” أي الرئيس الأسد، والقول لحمد بن جاسم بتاريخ 27 تشرين الأول/أكتوبر 2017.
وشهدت العلاقات التركية- القَطرية قبل “التهاوش” ومن بعده تطوّرات مُثيرة لتشكّل الدولتان محوراً إقليمياً يتبنَّى الإخوان المسلمين برضا ومباركة واشنطن التي تُدير كل عمليّاتها العسكرية في المنطقة، بما في ذلك شرق الفرات وقواعدها في تركيا، من قاعدتيّ العديد والسيلية، أكبر القواعد الأميركية خارج الولايات المتحدة، والتي تتفاوض مع طالبان في الدوحة. تتمتَّع قطر (600 ألف نسمة) بعلاقاتٍ مُميزةٍ على الصعيدين الرسمي والشخصي مع تركيا (82 مليون نسمة). سبق أن أهدى الأمير تميم إردوغان طائرته الخاصة وهي بقيمة 450 مليون دولار، فردّ الأخير على هذه الهدية بمنح قطر حق تشغيل واستثمار مصنع الدبابات التركي مقابل 50 مليون دولار لمدة 22 عاماً، والقول هنا لزعيم المعارضة التركية كمال كليجدار أوغلو.
وقطر ليست الدولة الوحيدة التي عدّ إردوغان أمنها جزءاً من أمن تركيا، إذ سبق أن قال في 7 آب/أغسطس 2011 “إننا لا نرى في موضوع سوريا قضية خارجية لأن القضية السورية بالنسبة إلينا شأن داخلي، لذا لا يمكن لنا أن نقف موقف المُتفرِّج حيال الوضع هناك”.
وكان “الشأن الداخلي” هذا سبباً كافياً للتدخّل التركي الشامِل والكامِل في سوريا التي كان إردوغان وما زال يرى فيها عنصراً أساسياً لكل مُعادلاته الإقليمية الخاصة بالمنطقة العربية، وهو يقول ومعه إعلامه الموالي “إنها كانت تحت الحُكم العثماني لأكثر من 400 عام”.
هذا الأمر يُفسِّر أيضاً الاهتمام التركي بليبيا من مُنطلقاتٍ عقائديةٍ إخوانيةٍ كما هي حال النظرة إلى سوريا والعلاقة مع قطر. فقد تبنَّت أنقرة ومعها الدوحة جميع الفصائل والحركات والقوى الإسلامية الليبية التي تُقاتِل ضدّ الجنرال خليفة حفتر قائد الجيش الوطني الليبي المدعوم من مصر والسعودية والإمارات.
الغريب في القصة أن هذه الدول ومن بينها تركيا وقطر إضافة إلى الفصائل التي تدعمها هي جميعها على المذهب السنّي ولا يوجد في ليبيا شخص واحد من الشرائح الطائفية أو العِرقية أو الدينية الموجودة في سوريا والعراق، من دون أن نتجاهل أن قطر والسعودية تنتميان إلى ذات المذهب الوهّابي.
أما الصومال فهو البلد العربي الرابع الذي يحظى باهتمام إردوغان بعد أن خسر حليفه العقائدي الرئيس عمر البشير. وكان إردوغان يُخطِّط لأن تكون السودان قاعدته العسكرية الاستراتيجية شرق إفريقيا بعد أن منحه البشير في 27 كانون الأول/ديسمبر 2017 حق إنشاء قاعدة عسكرية في جزيرة سواكن على البحر الأحمر، الأمر الذي ألغاه الحُكم العسكري في الخرطوم المدعوم من القاهرة والرياض وأبو ظبي.
ويسعى هذا التحالف الثلاثي إلى عرقلة التواجد العسكري والأمني والسياسي والاقتصادي التركي الواسع والفعَّال في الصومال التي توغَّل فيها الأتراك بشكلٍ كبيرٍ من خلال العلاقة مع كل الأطراف الصومالية التي تقدِّم لها أنقرة كافة المساعدات في جميع المجالات، بما في ذلك تدريب كل الكوادر العسكرية والأمنية الصومالية، حيث تستضيف تركيا الآلاف من الشباب الصومالي في جامعاتها ومؤسّساتها المُختلفة. كما تستضيف الآلاف من قيادات وكوادر وأعضاء حركات الإخوان المسلمين من مختلف الدول العربية، ويُقدِّر البعض عددهم بعشرة آلاف، من بينهم حوالى ألف من الإعلاميين العاملين في الإذاعات والتلفزيونات والمواقع الإخبارية وشبكات التواصُل الاجتماعي التابعة للحركات والتنظيمات الإخوانية العربية وغير العربية التي تحظى بدعمٍ مالي كبيرٍ من أنقرة.
ويبقى العراق بشقّه “الإخواني” ضمن اهتمامات تركيا والرئيس إردوغان لما لهذا البلد الجار من أهمية بالغة بالنسبة إلى أنقرة، ليس فقط عقائدياً أي طائفياً، بل أيضاً أمنياً وعسكرياً. فالعراق يجاور شرقي الفرات، ويستقبل قواعد أميركية تدعم كرد سوريا، وهو جار إيران المُنافِس التقليدي لتركيا منذ العهد العثماني والبلد الذي تتّهمه “إسرائيل” وأميركا بالتدخّل في المنطقة العربية!
هذه المُعطيات بتفاصيلها العلنية والسرّية كانت وما زالت السبب الرئيس في اهتمام إردوغان بالدول المذكورة، وهو كان يعتقد أنها ستؤول إليه بعد ما يُسمَّى بـ”الربيع العربي”.
أراد إردوغان لهذا الربيع أن يساعده على إحياء ذكريات الخلافة والسلطنة العثمانية وكانت معظم ذكرياتها سيِّئة في هذه المنطقة بما في ذلك قطر التي تحالف أميرها جاسم آل ثاني مع بريطانيا بعد معركة الوجبة التي هُزِم فيها الجيش العثماني عام 1893.
هذه الهزيمة التاريخية لم تمنع إردوغان، وريث الفكر العثماني، من التحالف مع مَن تمرَّد على أجداده، كما سبق له أن تحالف مع آل سعود في الحجاز وآل نهيان في الإمارات وآل هاشم في الأردن ضد الرئيس الأسد، فانقلبوا عليه جميعاً ومعهم السيسي الذي يرى فيه إردوغان عبدالناصر بنسخة جديدة كونه يُحارب الإخوان المسلمين في مصر وفي العالم، إذ سبق للسيسي أن طلب من ترامب أن يُعلِن الإخوان تنظيماً إرهابياً فلم يفعل طالما أن واشنطن بحاجة للإسلام السياسي.
ويرى إردوغان في نفسه زعيماً لهذا الإسلام باعتباره تربّى على هذا الفكر على يد زعيمه نجم الدين أربكان، قبل أن يتمرَّد عليه ويقوم بتأسيس حزب “العدالة والتنمية” عام 2001. وكان ردّ أربكان عنيفاً جداً آنذاك فاعتبر هذا الحزب “في خدمة الصهيونية والإمبريالية العالمية التي خطَّطت لتدمير المنطقة بعد احتلال العراق ولاحقاً سوريا”.
وقد يُفسّر كل ذلك ما نعاني منه الآن من مشاكل عويصة ومُعقَّدة ومُرتبطة بعضها ببعض منذ ما يُسمَّى بـ”الربيع العربي”. هذا الربيع الذي أراد الغرب من خلاله أن يسوِّق تجربة “العدالة والتنمية” التركي إلى الدول العربية، التي ستبقى في وضع لا تُحسَد عليه، والجميع يعرف مَن هم السبب.