مزيدٌ من الخطايا التركية في سوريا..
د. صبحي غندور
ازدادت في الأيام القليلة الماضية حدّة المواجهات العسكرية بين قوّات الحكومة السورية وبين الجماعات المسلّحة في منطقة إدلب، وازداد معها حجم التدخّل العسكري التركي في الأراضي السورية وحصول صدامات مباشرة وتبادل قصف مدفعي بين الجيشين النظامين لسوريا وتركيا ممّا ينذر بتطوّر عسكري كبير في المنطقة، خاصّةً في ظلّ الدعم الروسي لحكومة دمشق وعضوية تركيا في “حلف الناتو”.
وقد كانت أعذار أنقرة في السابق، لتبرير تدخّلها العسكري في عدّة مناطق مجاورة لحدودها مع سوريا، مرتبطة بالصراع التركي مع المنظّمات الكردية المنتشرة في الشمال السوري، أمّا في منطقة إدلب، فعذر تركيا هو منع تدفّق النازحين السوريين إلى أراضيها، عِلماً أنّ أنقرة كانت مسؤولة في “اتّفاق سوتشي” عن جملة مسائل لم تلتزم بها الجماعات المسلّحة في منطقة إدلب، والمدعومة عسكرياً ومالياً وسياسياً من الحكومة التركية، إضافةً لوجود جماعات إرهابية تعمل تحت اسم “هيئة تحرير الشام”، وهي بمعظمها من مقاتلي “جبهة النُصرة” المعروفة بعلاقتها بتنظيم “القاعدة”، والمصنّفة عالمياً كقوّة إرهابية، ورغم ذلك، فإنّ أنقرة تمتنع عن مواجهتها عسكرياً!.
فأيُّ منطقٍ يقبل أن تُهدّد أنقرة دمشق إذا واصل الجيش السوري تقدّمه نحو إدلب (وهي منطقة سورية مسؤولة عنها الحكومة السورية)، بينما تستبيح القوات التركية لنفسها التدخّل العسكري في سوريا (وفي العراق) تحت حججٍ مختلفة؟!. وهل حكومة أردوغان مستعدّة لـتأزيم علاقتها مع موسكو التي تساند الحكومة السورية في وقتٍ تشهد فيه العلاقات التركية مع أوروبا ومع الولايات المتّحدة تراجعاتٍ وأزماتٍ كثيرة؟!.
وهل كانت تركيا تعتقد أنّ الاتّفاقات التي حدثت في السنوات القليلة الماضية، بشأن نقل العديد من مسلّحي المعارضة السورية من مناطق سورية عديدة إلى منطقة إدلب، سيعني برداً وسلاماً لهذه الجماعات أو كمقدّمة لإعلان “جمهورية إدلب الديمقراطية”؟!، أمْ أنّ أنقرة كانت تراهن على سقوط الدولة السورية وتقسيم أراضيها بحيث تستولي تركيا على المناطق السورية المجاورة لها، كما فعلت في مطلع القرن الماضي حينما ضمّت لواء الإسكندرون السوري لأراضيها؟!.
ولا أعلم كيف تقبل جماعات المعارضة السورية المسلّحة أن يتمّ استخدامها من قِبَل تركيا كوسيلة لتحقيق مصالح وأهداف تركية خاصّة، بينها الاستيلاء على مزيدٍ من الأراضي السورية، وأن يذهب آلاف من المقاتلين من هذه الجماعات إلى ليبيا، فقط لخدمة مصالح تركية لا شأن لها بالأزمة السورية؟!.
حينما سيطرت “داعش” على الموصل ومناطق عديدة في العراق، لم تشتبك معها القوات التركية كما فعلت مع جماعات كردية مسلّحة هناك، بل العكس قد حدث، حيث جرت صفقة إطلاق العشرات من الدبلوماسيين الأتراك الذين كانوا في العراق تحت سيطرة “داعش” مقابل تسهيلات تركية عديدة لهذه الجماعة، بينها السماح لمقاتلين أجانب بدخول سوريا عن طريق تركيا للانضمام ل”داعش”، إضافةً إلى تسهيل تصدير النفط من المناطق التي تهيمن “داعش” عليها.
إنّ تنظيم “داعش” وأخواته مستمرّون في التواجد الآن داخل الأراضي السورية، رغم القضاء على “دولة التنظيم” التي أقيمت في العام 2014 على أراضٍ واسعة من العراق وسوريا. وهناك عدّة الآف من عناصر “داعش” ما زالوا ينشطون أو قيد السجن في دولٍ مختلفة رغم مقتل عشرات الألوف من هذه الجماعة، وهناك “جبهة النُصرة” شقيقة “داعش” التي ما زالت فاعلة في محافظة إدلب السورية باسم “هيئة تحرير الشام”!.
لقد كان إعلان وجود “الدولة الإسلامية” في العراق وسوريا مقدّمة عملية لإنشاء دويلات دينية جديدة في المنطقة، كما حصل من تقسيمٍ للبلاد العربية بعد اتّفاقية سايكس- بيكو في مطلع القرن الماضي، وممّا يدفع هذه الدويلات، في حال قيامها، إلى الصراع مع بعضها البعض، وإلى الاستنجاد بالخارج لنصرة دويلة على أخرى.
تساؤلاتٌ عديدة ما زالت بلا إجاباتٍ واضحة تتعلّق بنشأة جماعة “داعش” وبمَن أوجدها ودعمها فعلاً، ولصالح أي جهة أو لخدمة أي هدف!. ومن هذه التساؤلات مثلاً: لِمَ كانت التسمية الأصلية “داعش”، والتي هي اختصارٌ لتنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” بما يعنيه ذلك من امتداد لدول سوريا ولبنان والأردن وفلسطين، وهي الدول المعروفة تاريخياً باسم “بلاد الشام”، وما كان سبب عدم ذكر تركيا أو غيرها من دول العالم الإسلامي، طالما أنّ الهدف هو إقامة “خلافة إسلامية”؟!. أليس ملفتاً للانتباه أنّ العراق ودول “بلاد الشام” هي التي تقوم على تنوّع طائفي ومذهبي وإثني أكثر من أيِّ بقعةٍ عربية أو إسلامية أخرى في العالم؟! ثمّ أليست هذه الدول هي مجاورة أيضاً، إضافةً لتركيا، ل”دولة إسرائيل” التي سعت حكومة نتنياهو جاهدةً لاعتراف فلسطيني وعربي ودولي بها ك”دولة يهودية”؟! ثمّ أليست هناك مصلحة إسرائيلية كبيرة بتفتيت منطقة المشرق العربي أولاً إلى دويلاتٍ طائفية وإثنية بحيث تكون إسرائيل “الدولة الدينية اليهودية” هي الأقوى والسائدة على كل ماعداها بالمنطقة؟!، ولماذا مارست “داعش” الإرهاب والقتل على مسلمين ومسيحيين، في مشرق العالم ومغربه، على العرب وغير العرب، بينما لم تحدث عمليات “داعشية” نوعية في إسرائيل أو في تركيا؟!.
فمن المهمّ التوقّف عند ما حدث ويحدث في المنطقة العربية وخارجها من أعمال عنف مسلّح تحت مظلّةٍ دينية وشعاراتٍ إسلامية، وما هو يتحقّق من مصلحة إسرائيلية كانت أولاً، في مطلع عقد التسعينات، بإثارة موضوع “الخطر الإسلامي” القادم من الشرق كعدوٍّ جديدٍ للغرب بعد اندثار الحقبة الشيوعية، وفي إضفاء صفة الإرهاب على العرب والمسلمين، ثمّ فيما نجده الآن من انقسامٍ حادٍّ في المجتمعات العربية وصراعاتٍ أهلية.
هناك فعلاً صراع محاور إقليمية ودولية على سوريا وفي عموم المنطقة العربية، لكنْ للأسف، فإنّ الرافضين لهذا الصراع من السوريين والعرب لم ينجحوا في صنع البديل الوطني الصالح، والبديل العربي الأفضل، بل نجد هيمنةً أجنبية على تداعيات كلّ الحروب الدائرة في أكثر من بلد عربي، كما تستفيد القوى الإقليمية، والمشروع الإسرائيلي تحديداً، من هذه الأزمات العربية والتي تُهدّد بتفتيت المنطقة إلى دويلاتٍ متصارعة. فلا يمكن تجاهل حقيقة أنّ درجة العنف العالية التي حصلت في الأوضاع السورية كانت انعكاساً لحدّة أزماتٍ وصراعاتٍ أخرى، مترابطة كلّها بعناصرها وبنتائجها وبالقوى الفاعلة فيها.
هذه أبعادٌ خارجية مهمّة للصراع المسلّح الذي لم ينتهِ بعدُ في سوريا، فهو صراع إقليمي/دولي مستمرّ على سوريا، وعلى دورها المستقبلي المنشود عند كلّ طرفٍ داعمٍ أو رافضٍ للحكم الحالي في دمشق. لذلك نرى اختلاف التسميات لما حدث في سوريا، فمن لا يريد تبيان الأهداف الخارجية للصراع يصرّ على وصف ما حدث بأنّه “ثورة شعبية على النظام”، فقط لا غير. ومن لا يعبأ بالتركيبة الدستورية السورية الداخلية وبطبيعة الحكم، ويهمّه السياسة الخارجية لدمشق فقط، يحرص على وصف ما يحصل بأنّه “مؤامرة كونية” لا مبرّرات داخلية لها. في الحالتين هناك ظلمٌ للواقع ونتائج لا تُحمد عقباها على الشعب السوري وعلى المنطقة كلّها.
*مدير “مركز الحوار العربي” في واشنطن