محاكمة دوليّة لم تكشف عن الفاعل الحقيقي… لماذا؟!
د. جمال زهران*
أخيراً… أُسدل الستار عن نهاية المحاكمة الدولية لاغتيال رئيس وزراء لبنان قبل 15 عاماً وأكثر، رفيق الحريري. حيث استمرت المحاكمة زهاء 15 عاماً للكشف عن الفاعل الرئيسي لجريمة الاغتيال، ومَن وراء ذلك العمل الإجرامي، وكانت نتيجة المحاكمة في جملة واضحة، أنّ الفاعل مجهول، والمجرم الحقيقي لم تستطع المحكمة الدولية أن تضع يدها عليه، ومن ثم فإنه شأن كل المحاكمات الدولية في التاريخ الحديث، هو أن قيِّدت ضد مجهول، وعلى المؤرخين أن يتفحصوا الأمر ويصدروا أحكامهم كالعادة!
وكانت قد استضافتني قناة «أبوظبي» قبل أكثر من 15 عاماً، بالتحديد يوم الاغتيال الذي تمّ ظهراً وفي وضح النهار يوم 14 فبراير/ شباط 2005، لتحليل الحدث ومَن وراءه، وكنت آنذاك محللاً سياسياً للقناة أسبوعياً، وبعد ساعة ونصف الساعة من وقوع الحادث. وكان لقاءً عاصفاً، حيث كانت الأسئلة ساخنة والإجابات منّي أكثر سخونة، خاصة بعد أن شاهدت عملية الانفجار التي تمّ تصويرها بشكل واضح من مكان الحدث سواء قبل حدوثها أو بعده وحجم الدمار الذي شهدته عملية الاغتيال. وقد أوضحت على ضوء ما شاهدته أنّ هذا الانفجار يتسم بالتخطيط والإحكام الجيد، وأنّ كمية المتفجرات كانت كبيرة لدرجة أنه تمّ تدمير عربة رئيس الوزراء والمرافقين له، والمنطقة التي مرَّ بها. كما أنّ المتفجّرات – كما هو واضح – موضوعة بشكل مرتب، وأنّ من قام بتفجيرها كان يجلس عن قرب من مكان الحادث، وتمّ ذلك عن طريق «الريبوت»، وربما من فجّرها راح ضحية الحادث، بما يتسق مع درجة الإتقان العالية. ثم قلت إنّ هذه العملية بهذا الشكل لا ينفذها إلا جهاز مخابرات محترف، وليس مجرد أشخاص هواة أو حتى محترفين، بحيث لم يترك خلف العملية من آثار سوى الاغتيال والرماد. ثم حدّدت أنني أرجّح أنّ جهازي مخابرات إسرائيل وأميركا هما اللذان قاما بهذه العملية الإجراميّة، لسببين هما: الأول: إخراج سورية من لبنان وسط اتهامات بأنها وراء عملية الاغتيال، بل أن الرئيس بشار الأسد هو مدبّرها! والهدف الثاني هو: إحداث الفتنة السياسية داخل لبنان بحيث تظلّ المقاومة ملاحقة بالاتهام. ففوجئت بالمذيعة تقول: كيف يمكن لك أن «تتسرّع» بهذا الحكم بتوجيه الاتهامات بشكل صريح، بينما الاتهامات تلاحق سورية وحزب الله! فأجبت فوراً أنه ليس من مصلحة سورية الموجودة في لبنان آنذاك، وليس من مصلحة المقاومة ممثلة في حزب الله، أن ترتكب هذه الحماقة! ونفيت التهمة عن كلّ من سورية وحزب الله في اللحظة ذاتها ومن البداية، وأنّ الرئيس بشار الأسد من الذكاء، وجهاز مخابراته، ألا يرتكب مثل هذه الجريمة، لأنّ ثمنها عالٍ جداً.
وفي إطار ردودي هذه، الواضحة ودفاعي عن سورية وحزب الله والمقاومة، وشرحي المسهب عن أسباب عدم ارتكابهم لهذه الجريمة الشنعاء، في الوقت نفسه، اتهمت «إسرائيل» والولايات المتحدة، بأنهما وراء الحادث بشكل واضح، ويمكن الرجوع لهذه الحلقة، أن كان لقائي هذا هو الأخير في قناة أبو ظبي، وللأبد وإلى الآن! وعلمت أنّ السبب هو ما صرّحت به، وكانوا يتوقعون أن أساير المذيعة في توجيه الاتهام لسورية والرئيس الأسد شخصياً، وحزب الله والمقاومة، وهو ما لم يحدث. ومرت الأيام عبر 15 عاماً، حيث تشكلت محكمة دولية، لبحث عملية الاغتيال، وبعد تحقيقات دامت هذه السنوات الطويلة، فوجئ الجميع بحقيقتين هامتين هما:
الأولى: أنّ سورية ورئيسها بشار الأسد، وحزب الله والمقاومة، وقائدها السيد حسن نصر الله، لا علاقة لهما بالحادث والجريمة من قريب أو بعيد، وأنهم بريئون من هذا الفعل الأسود، بغض النظر عن اتهام أشخاص لا تأثير أو وزن لهم.
الثانية: أنه لم يُشِر الحكم، إلى الفاعل الحقيقيّ الذي يتمثل في جهازي المخابرات الصهيونية والأميركية، ولذلك أغفلت المحاكمة حجم ونوعية الحادث بما استخدم فيه من متفجرات كبيرة، والتي لا يمكن لأحد سوى أجهزة المخابرات المحترفة أن تفعله.
وبالتالي قيّدت الجريمة ضدّ مجهول لعدم كفاية الأدلة، وصدر الحكم يوم الثلاثاء الموافق 18 أغسطس/ آب، والمؤجلة من أسبوعين، في لاهاي، وسط استعراض إعلامي كبير وغير مسبوق. وهي المحاكمة التي كلفت الخزانة اللبنانية مليار دولار! في بلد يحتاج لكلّ دولار. ولكنها مسألة التدويل ذات المنطق الاستعماري. ألا يتعلم اللبنانيون من هذه المحاكمة السياسية الوهمية التي علقت المشانق طوال 15 عاماً للمقاومة اللبنانية، وسورية، وتأزمت العلاقات السورية السعودية منذ ذلك التاريخ على خلفية الاتهام لسورية باغتيال رجل السعودية (رفيق الحريري)، وكذلك أحدثت هذه الجريمة فتنة سياسية وسط اللبنانيين لا زالت أصداؤها للآن، حتى بعد انفجار مرفأ بيروت يوم 4 أغسطس/ آب الحالي؟ فهل يتعلم اللبنانيون، ويتفادون تدويل التحقيقات في انفجارات مرفأ بيروت، الذي يطالب به البعض من ذوي العلاقات مع دول أجنية وعربية خليجية؟!
يا ليتهم يتعلمون، ويتعلم كلّ وطني قومي عروبي من هذا الحدث وتلك المحاكمة، بأن يظلوا أقوياء ومدافعين عن العروبة والاستقلال الوطني مهما كانت العواقب كبيرة.
لقد خرجت سورية والرئيس الأسد، وخرجت المقاومة وحزب الله والسيد حسن نصر الله، أكثر قوة، وهم في الأصل غير متهمين كما كانت تروّج وسائل الإعلام الصهيونية، وإعلام الرجعية العربية، وستظلّ المقاومة خياراً وجودياً لبنانياً وسورياً وفلسطينياً وعروبياً أبد الآبدين. وقد أسقطت المحاكمة الوهمية ورقة التوت عن عملاء أميركا والصهيونية والرجعية العربية.
*أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدوليةالأمين العام المساعد للتجمع العربي الإسلامي لدعم خيار المقاومة، وأستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، ورئيس الجمعية العربية للعلوم السياسية.