ليست مجرد معركة.. فلا تفسدوا ما أنجز
عن صحيفة الثورة – السورية
محمد شريف جيوسي – كاتب أردني:
يحلو للبعض إفساد وتشويه اللحظات التي أكثر ما تستوجب تماسك الشعب أو الأمة أو الوطن أو المقاومة ؛ وتقتضي وحدة الصف والهدف والغاية، هؤلاء البعض يفعلون ذلك، سواء عن جهلٍ أو قلة وعيٍ أو أنانية تنظيمية؛ أو فذلكة ومزاودة، أو عمالة مغطاة بحماسة زائفة.
يحدث هذا في وقت يفترض فيه قراءة الواقع الراهن والسابق بنزاهة لمن يجري تقييم أفعالهم وتاريخهم النضالي، وصولاً إلى مواقف صائبة موحّدة ؛ ليست مفرّقة ولا مشتّتة للجهد الذي طالما اختبر جيداً في أصعب الظروف وأدق المواقف ولم يخب أملاً ولا أفسد رجاءً وكان على الدوام في موقع صدق وفعل حقيقي وعطاء.
لا شك أن معركة 7 تشرين أول 2023 ، شكلت لحظة تاريخية استثنائية فارقة، سيكون بعدها ليس كما قبلها جملة وتفصيلاً، لا على صعيد فلسطين فحسب وإنما على صعيد منطقة غرب أسيا، بل وعلى صعيد العالم، بما ترسم من مقدمات وإسهام ممكن في تغيير وتصويب معادلات دولية وصياغة توازنات جديدة أكثر عدلاً وأمنا واستقراراً، بديلة لما شهده ويشهده العالم على مدى 3 عقود ونيف، تسلط خلالها الغرب بقيادة مطلقةٍ للولايات المتحدة الأمريكية على مقدرات البشرية وحرياتها، حروباً وفتناً وإرهاباً وانقسامات وترديات قيمية وأزمات اقتصادية وخراب بيئي كارثي وتجارة بشر ومخدراتٍ وأوبئة مصنعة.
لكن هذا الإنجاز الاستثنائي الكبير والمفترض؛ لا يجدر أن يأخذنا إلى نقيض يُجهزُ عليه، وتكرار أخطاء الماضي غير البعيد، فحروب التحرير والتحرر والحرية ليست مجرد حقوق واحتياجات ورغبات وشعارات فحسب، وإنما هي أيضاً أخذ مستوجباتها واستحقاقاتها وتحالفاتها وتداعياتها على مَحمل الجد والاستعداد، وليست هي مجرد مكاسب قطرية أو فصائلية أو أجندات ضيقة تستثمر في اللامعقول معزولة عن الأطراف المعنية بالحرية والتحرر والتحرير، ومدى الصدق لدى من يدعي أنه معك لكنه ضدك في واقع الأمر، كتركيا أردوغان؛ الذي فَضَحَ موقفها علناً في مجلس النواب؛ موقفها؛ نائب تركي شجاع وصادق، ومما قاله: “الطيارون الذين يقصفون غزة الآن تدربوا في قونية التركية ، ووقود طائراتهم من الأسكندرون وطعام جنودهم من الأنبا وماؤهم الذي يشربون من مانافغات وأسلحة جنودهم صنعت في مصانع تركية .. وأنه يكفي كذباً ونفاقاً”.
أقول، بات ليس مستبعداً، نظراً لما تُوجّه من حملات متزايدة، ضد صادقي القول والفعل؛ الانحراف بـ معركة 7 تشرين لتشويه وتوريط الصادقين قبلها وبعدها، إضافة لما هم عليه من حرب وحصار وتضييق، في حين لم يبلّغوا ليكونوا على أهبة الاستعداد والإعداد، لوضع لكل أمرٍ عدّته، بينما يُطالَبون كما لو نُسّق معهم كمحور واحد ساندهم في كل الظروف كما تنبغي المساندة.
ورغم ذلك يقال غير الحقيقة، إنكاراً لما قدموا ويقدموا من ضربات استراتيجية غير انفعالية موجعة تصفوية لقدرات العدو وإمكاناته التدميرية، فيما ترابط بوارج الغرب والنيتو مجتمعة، بما يؤشر على أن هدفهم أبعد وأكثر وأكبر من غزة، إضافة لما تكبدوا من أثمان وحصارات ودماء، انتصاراً للقضية في لحظة الشدة والخذلان، والقول بأن ما يقوموا به الآن كانوا يقوموا به قبل 7 تشرين، ضد أهداف أمريكية داعمة لإسرائيل، بل وعلى افتراض أنهم لم يُصَعّدوا فعلاً، فإن ذلك يعني أنهم كانوا معك وإلى جانبك حتى قبل أن تبدأ أنت.
لا بد أنه ينبغي محاذرة توّرم وتضخم الذات الفصائلية، وتجنب الاعتقاد بأن الإنجازات المشرّفة تأتي هكذا ذاتياً فحسب، دون تراكمات نضالية متصلة وشراكات وتحالفات ودعم، وأن ذلك ليس عيباً بل هو مطلوب.. وأن علينا أن لا ننس أن ثقافة (يا وحدنا) الفلسطينية بدأت تبرز مع تمام الثلث الأول من سبعينات القرن الـ 20 المنصرم، وكانت بداية انكفاء القضية الفلسطينية، وما حملته من تبرير التراجعات بدءاً بـ البرنامج المرحلي، وما تلاه حتى وصلنا إلى اتفاقية أوسلو المذلة.
أعني أن تورم الذات حتى لو كانت ذاتاً (نضالية أو جهادية أو سواهما) وتحميل الآخر أوزارك، أو وصف غير المتخاذل بالتخاذل كما البقية، يكرّس عزلتك ويكرس اتخاذ قرارات وتوجهات وبرامج تفريط، حتى الوصول إلى الحضيض.
لقد مرت الأمة العربية بكارثتين تاريخيتين، نحصد الآن نتائجهما، الأولى نكبة فلسطين سنة 1948، التي شرعنها تدخل (الجيوش العربية) دون تنسيق واستعداد كاف وصدق نوايا، وتسليم قيادتها لمندوب بريطانيا السامي كلوب، التي قدمت وعد بلفور وفرضت مع فرنسا مؤامرة سايكس بيكو، والتي منحها مؤتمر الصلح الوصاية على فلسطين لتنفيذ وعدها (بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين) فأي نصر يرتجى في المحصلة من حرب بهكذا جيوش قيادها بيد بريطانيا الاستعمارية سوى تكريس (الهدن) وتسليم 72 % من فلسطين للصهاينة.
وكانت الكارثة الثانية باستدراج دول عربية لحرب مرتجلة، لم يستعد لها كفاية، في وقت لم يكن لدى أي مواطن عربي؛ أي شك، بأن النصر والتحرير قضية ساعات أو في أسوأ الحالات أيام، بما كان يضخ من إعلام حماسي زائد وآمال.
أقول إن الذين يريدون الآن حرباً مفتوحة واسعة دون تنسيق مع محور المقاومة ودون استعداد كاف، ودون تنسيق مسبق مع الأصدقاء وفي المقدمة روسيا والصين وإيران وكوريا الديمقراطية وفنزويلا ومع بعض العرب كالجزائر.. إنما يريدون تكرار كارثتي 48 و67.. بمسوح الثورية وما حققه 7 تشرين أول من إنجاز عظيم، لا ينبغي أن يُهدر، وإنما البناء عليه والاستعداد لحرب تحرير قادمة لا مَحالة، لا مجرد معركة مظفّرة، تذكرنا بمعارك مشرفة خاضتها المقاومة في العقدين الأخيرين وبمعركة الكرامة عام 1968.. كما تؤكد لنا أن حرب التحرير قادمة لا محالة بمعطيات أشمل وأوسع وأكثر دقة وعطاءً، وأن هذه الحرب ستسهم في قيام نظام عادل عالمي جديد.
بكلمات على المشككين إن (صدقت) نواياهم؛ الصمت، لكي لا يقدموا خدمة مجانية للعدو الصهيوني؛ المدعوم من حلف النيتو بما في ذلك تركيا ومن معها، وعلى الذين يروجون لتلك الأفكار حول حرب عالمية أن يدركوا أنها فرصة الغرب لتحقيق الأسوأ، ولكن علينا الاستعداد ليس لمعركة أو غزوة أو فزعة ـ وإنما لحرب التحرير وهي ليست بعيدة زمنياً، حيث تقرب الظروف الموضوعية العالمية وقوعها وانتصارها.